منذ مدة ليست بالقصيرة ولبنان الرسمي منهك مع كل تشكيل حكومة جديدة أم العيب في اللاعبين الأساسيين في الحياة السياسية
اللبنانية، وهذا مؤكد ولا أدل على ذلك من شهادة المسؤولين الدوليين وليس آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصفهم بأبشع النعوت في مضبطة سياسية واسعة، ووزير خارجيته جان إيف لودريان الذي وصفهم بأنهم منفصلون عن الواقع وكأنهم يعيشون على كوكب آخر، فالأزمة السياسية والاقتصادية التي تضرب الناس بلا هوادة في واد وأهل الحل والعقد في واد آخر.
أما العيب الآخر فقد يكون عيبا في صلب الدستور أو ما يعرف باتفاق الطائف، وهو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سعودية في 30 أيلول / سبتمبر 1989 في مدينة الطائف وتم إقراره بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1989 منهيا الحرب الأهلية اللبنانية بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها. وعليه يعتبر هذا الاتفاق الراعي القانوني والدستوري الذي يحكم العلاقات بين الفرقاء والساسة اللبنانيين الذين ما انفكوا يفسرون مواد وثيقة الوفاق الوطني اللبناني كل على ما تشتهيه مصالحه الآنية واللحظية، فبات كل فريق له طائفه الخاص: فطائف السنّة غير طائف الشيعة، غير طائف الموارنة، غير طائف الدروز.
اغتيال الحريري.. ربما يكون بداية اغتيال الطائف
ولكن مع تسارع الأحداث منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005، فإن رياح اغتيال الطائف تلوح في الأفق عبر جملة أحداث ليس أقلها
أزمات تشكيل الحكومات المتتالية، والتي تكاد تستنفد أيام الحكم الرئاسي في لبنان، ضاربة منظومة العمل السياسي الطبيعي في الدولة وكأننا في جمهورية موز، وعلى سبيل المثال لا الحصر حكومة الرئيس تمام سلام التي أدارت الفراغ الرئاسي بعد انقضاء ولاية الرئيس سليمان والتي استهلكت لولادتها سنة إلا قليلا. وكأني بالكثيرين في هذه الأيام يغمزون إلى عجز في
اتفاق الطائف في محاولة لتفريغ الطائف من مضمونه عبر الممارسة قبل النص. والسؤال: من يرغب بنسف الطائف؟
لقد طُرحت سابقا مجموعة من الأفكار حول مؤتمر تأسيسي بدأت مع أمين عام حزب الله ثم استمرت الدعوات في سان كلو الفرنسية عام 2006، حيث لا يخفى وجود مواقف مختلفة من الطائف، وتحدث البعض يومها عن طرح عبّر عنه الإيرانيون في حل قوامه المثالثة كبديل عن المناصفة بين الطوائف اللبنانية، لتعزيز دور الطائفة الشيعية في معادلة السلطة. بالتالي، يروم المؤتمر التأسيسي إعادة التوزيع الطائفي والمذهبي من أجل "تصويب الخلل الديموغرافي" واستغلال مقولة إنصاف الطائفة الشيعية السياسية التي تعتبر أن الطائف لم ينصفها، وليس أدل على ذلك من إشكالية وزارة المالية في الحكومة المزمع تأليفها حيث أزمة التواقيع من كل الطوائف.
أما الفريق المسيحي المطالِب باستبدال الطائف فهو يدعو إلى استرجاع قوة المسيحيين وامتيازات الرئيس الماروني، ويقف على رأسه التيار الوطني الحر الذي يعتبر أن هذا الاتفاق أجحف المسيحيين وقضم من صلاحيات الرئيس، وأعطى الفريق المسلم بالمقابل حصة ونفوذا أكبر على حسابهم.
من هنا جاء طرح رئيس "تكتل لبنان القوي" النائب جبران باسيل لتطوير النظام بقوله: "نظامنا السياسي ليس مقدساً ونستطيع تطويره، وإن هذا النظام فشل ويحتاج إلى إصلاح ويجب أن تكون لدينا الجرأة لمقاربة هذا الموضوع على البارد، وإلا ننتظر لتحمى الأمور وتقع المشاكل ويقع الحل على السخن!".
فهل أصبح اغتيال الطائف على الأبواب؟ وهذا هو التمهيد ولكن مهلا، هل يحتمل البعض تكاليف ضرب الطائف في الصميم والبلاد تكاد تلفظ أنفاسها ماليا وسياسيا واقتصاديا والمنطقة برمتها تتغير؟!
أما في المقلب السني فيكاد يكون الطائف مقدسا وغير قابل للمس، وهنا لا بد من التنبه أن دستور الطائف لم يطبق أصلا كي يتم الانقلاب عليه، لأن نظام الترويكا الذي أرسته معادلة "س - س" السورية السعودية قد عطّلت تطبيقه. ثم جاءت الأحداث الأمنية المتتالية بعد اغتيال رفيق الحريري، ومنها كارثة 7 أيار/ مايو 2008 التي أوصلت إلى اتفاق الدوحة، وبعدها حلّت بدع جديدة في الحياة السياسية؛ من الثلث المعطل إلى تعطيل حكم أكثريات مختلفة تارة شرعية وأخرى غير شرعية، ما سمح بقضم النظام اللبناني البرلماني الأكثري الديمقراطي والذي اعتاد أن يهتز كلما اهتز الإقليم، والذي هو بالمناسبة للأسف ينتج توافقيا عن طريق كوتا التمثيل الطائفي والجغرافي!!
الطائف شبكة أمان
لقد قال الإمام موسى الصدر: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه"، وقال الرئيس رفيق الحريري: "لقد أوقفنا العد"، في إشارة لخطورة العامل الديمغرافي. ولا زالت الكثير من المرجعيات المسيحية الدينية والسياسية مؤمنة بخيار الكاردينال الراحل مار نصر الله صفير للتمسك بخيار الطائف كحال في وطن استعصت عليه الحلول. لذلك لا بد من الحفاظ على اتفاق الطائف، وفي حال السعي إلى تطويره عليكم بداية تطبيقه بطريقة صحيحة، واحترام هواجس كل الأطراف، وليس عبر سياسة من يقضم أكثر بأي قوة كانت داخلية أو إقليمية أو دولية. فالأيام دول، وما تأخذه اليوم عنوة ستخسره غدا بخيارات مؤلمة، وإن كان الرئيس ماكرون أشار إلى عقد سياسي اجتماعي جديد، ولكن برعاية من وعلى حساب من ولمصلحة من؟!
إن الأجدى في هذه اللحظات السوداء من تاريخ لبنان هو في البحث عن حكومة رجال أكفاء وإجراء
الإصلاحات، وعقد الاتفاقات لتحسين صورة لبنان المهزوزة ماليا واقتصاديا، والسعي لجلب الاستثمارات، وانتشال الناس من الموت البطيء الذي يغزو نفوسهم، وليس في محاولة اغتيال الطائف الذي يضبط الحياة السياسية القائمة بحدها الأدنى. لذا لا بد من الالتفاف حول الصيغة الفريدة في العيش الواحد أو ما يسمى بالعيش المشترك، لأن زوال هذا العيش الواحد والانصهار الوطني الحقيقي تحت الأرزة لن يبقي ميزة لبنان التفاضلية كوطن رسالة كما ردد البابا ذات يوم، وتاليا لن يبقى لا الطائف ولا الكتاب (الدستور، كما كان يحلو للرئيس فؤاد شهاب تسميته)، ولا لبنان حتى في زمن الخرائط المتبادلة والجغرافية المتحولة.