يواصل الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، في الجزء الثاني والأخير من رده على ملاحظات الباحث المغربي الدكتور فؤاد هراجة بشأن الواقع السياسي الذي تعيشه جماعة العدل والإحسان المغربية والتحديات التي تواجهها.
العدل والإحسان وأزمة خيار سياسي
في الدراسة التي قمنا بها، والتي سبقتها مقابلات مع ناشطين ومثقفين من القيادات الوسطى لجماعة العدل والإحسان، انتهى توصيف مسار الجماعة إلى السردية التي ساقها المقال السابق، والذي ذكر المنحنيين: الصعودي والنزولي لجماعة العدل والإحسان، بدءا بتحقيق الشيخ ياسين لذروة شهرته في مرحلة ابتلائه السياسي، أي مرحلة إدخاله لمستشفى المجانين، وبلوغ الجماعة ذروة توسعها التنظيمي، أي في مرحلة اعتقال مجلس الإرشاد، والإقامة الجبرية للشيخ ياسين، وانتهاء بـ"المنحنى التنازلي للجماعة، والذي بدأ مع رسالة "إلى من يهمه الأمر"، وتعمق مع فشل رهان رؤية 2006، وأن كل الجهود التي قامت بها الجماعة، لامتصاص الأزمة، فشلت، وأن منسوب استقطابها وتمددها، قد وصل إلى مستويات متدنية، وأن اللحظة التي قدرت فيها الجماعة أنها ستعيد الوهج والألق لخطها (أي مرحلة الحراك 2011) ارتدت إلى العكس، بعد انسحاب الجماعة من مكونات الحراك، وفقدانها لصورتها".
يجادل الكاتب الناقد في هذه الحيثيات، ويعتبر أننا سقطنا في متناقضات كثيرة، اعتبرها مؤشرا على فقدان التماسك الداخلي الناظم لعملية النقد، مستندا إلى حجة متى بدأت الأزمة؟ وهل بدأت زمن الشيخ؟ أم بعده؟
والواقع، أن التمييز بين أزمة البراديغم وأزمة الخيارات، واستحضار السردية المذكورة، يظهر تماسك النقد، فالأزمة التي طالت البراديغم الحركي (مركزية الشيخ المصحوب)، هي غير الأزمات المتجددة التي تطال الخيارات السياسية التي تتناسب مع طبيعة المرحلة.
فهذا التمييز هو الذي منع الكاتب الناقد من إدارك عدم وجود أي تناقض بين القول بأن وجود الشيخ ياسين يعفي الجماعة من الأزمة، أي أزمة البراديغم الحركي القائم على فكرة الشيخ المصحوب، وبين الإقرار بوجود أزمة خيارات سياسية زمن الشيخ ياسين، أي أزمة موقف وسلوك سياسي، اضطرت الجماعة أن تواجه كلفته، وربما اضطرت أن تراجعه بعد ذلك أو تستدرك عليه.
فأزمة البراديغم بدأت مع الشيخ ياسين قبل تأسيس الجماعة، لكنه حسمها مع تأسيس الجماعة، عندما ترك صيغة التقاء الإرادة الجهادية بالإرادة الإحسانية في شخصين، لجهة توحيد المهمتين في شخص واحد هو الشيخ، فتجددت أزمة البراديغم الحركي مرة أخرى، مع وفاته، بعد أن طرح سؤال الشيخ الصحوب على النسق النظري الياسيني.
أما أزمة الخيارات، فهي متتالية، ومتجددة، وتحاول الجماعة في كل لحظة استدراك الموقف، واستثمار الفرص التي تعقب الأزمة لتجاوزها.
بدأت الأزمة مع "مذكرة إلى من يهمه الأمر" والتي كانت تحمل المضمون الخطأ في الزمن الخطأ، بالرسالة الخطأ، بإقرار مختلف الفاعلين السياسيين، بل وبإقرار عدد ممن قابلهم الكاتب في مقابلات بحثية من باحثين مشهود لهم بالموضوعية داخل جماعة العدل والإحسان.
الواضح أن الشيخ ياسين أراد أن يعيد التجربة مرة ثانية، أي كتابة رسالة نصح إلى الملك محمد السادس، كما كتبها من قبل إلى الملك الحسن الثاني، إلا أنها لم تلق أي أثر إيجابي من قبل الرأي العام ولا من قبل الفاعلين، بل كان عدد من الفاعلين، يؤملون أن يحدث تغير إيجابي في العلاقة بين الشيخ ياسين وبين الملك الجديد، على اعتبار أن هذا الملك لم يدخل في مناكفة مع هذه الجماعة، بل عمل على فك الحصار على الشيخ ياسين سنة 2000، واتخذ قرارا جريئا قطع مع منطق الملك الراحل في التعاطي مع الجماعة.
أما الأزمة الثانية، فكانت الأعمق، وهي أزمة رؤية 2006 (رأى فيها الشيخ في المنام تحقق القومة الإسلامية في هذه السنة) التي لم يناقشها الكاتب الناقد، مع أنها هي التي استدعت مسارا من المبادرات صدرت عن الجماعة، كلها تطلب ود مختلف الطيف السياسي، للتداعي إلى أرضية مشتركة لمواجهة الاستبداد السياسي.
بدأت الأزمة مع "مذكرة إلى من يهمه الأمر" والتي كانت تحمل المضمون الخطأ في الزمن الخطأ، بالرسالة الخطأ، بإقرار مختلف الفاعلين السياسيين، بل وبإقرار عدد ممن قابلهم الكاتب في مقابلات بحثية من باحثين مشهود لهم بالموضوعية داخل جماعة العدل والإحسان.
والغريب أن الكاتب الناقد يحاول أن يلغي المصاحبات السياسية لهذه المبادرات، مستمسكا بفكرة أصالة فكرة الميثاق في كتابات الشيخ ياسين، وأنها كانت حاضرة في كتاباته الأولى، حتى ينفي عن هذه المبادرات صفة كونها محاولة لامتصاص الأزمة التي مرت بها الجماعة عقب رؤية 2006.
والجواب عن اعتراضه، يأتي من أحد القيادات السابقة للجماعة، والذي رشحته الجماعة لإجراء حوار مع الكاتب حول مسار الشيخ عبد السلام ياسين، وهو الأستاذ عبد العلي مجدوب، فقد كتب مقالين اثنين في موقع هسبريس سنة 2011 وسنة 2014، أولهما (الميثاق الجامع والضرورة السياسية) أكد فيه أن المقصود بالميثاق في التفكير المنهاجي الياسيني ـ الذي تعلق به الكاتب ـ هو الميثاق الذي يحصل بعد القومة، أي زمن إقامة الدولة الإسلامية، لا قبلها، ودليله في ذلك، أن جميع الأطياف تؤول إلى أرضية المرجعية الإسلامية.
أما الميثاق الذي تداعت له الجماعة، بعد رؤية 2006 وأثناء حراك 20 فبراير، فهو الميثاق الذي فرضته الضرورة السياسية، أي الميثاق الذي تم فيه التنازل عن شرط المرجعية الإسلامية، وهو الميثاق الذي يصرح الأستاذ عبد العالي مجدوب، أنه "دعوة صادرة من طرف واحد، هو جماعة العدل والإحسان، لا نجد لها، لحد الآن، أيّ نوع من الاستجابة لدى الأطراف المعني" وهو نفس التقييم الذي تضمنه تبناه الكاتب في المقال المنتقد، والذي قال عنه مجدوب بأنه تقييم "لا يُعجب كثيرا من الناس، وخاصة أولئك الذين يطمئنون إلى الثبات والتكرار والأحلام، وينزعجون من المراجعة والنقد والتغيير"، بل ذهب الأمر بالأستاذ مجدوب في مقاله الثاني (العدل والإحسان تدعو إلى "ميثاق جامع" مستحيل التطبيق) إلى القول بأن أن هذا الميثاق الجامع" مستحيل التطبيق.
يمكن للكاتب الناقد أن يقرأ في ضوء هذا التقييم لحيثيات الأزمة مبادرة نداء جميعا من أجل الخلاص سنة 2007، وجملة التحيينات التي حصلت لوثيقة "توضيحات" سنة 2008، ويمكن له أيضا أن يقرأ في النقد الذاتي الذي قدمه المجلس القطري الدائرة السياسية للجماعة سنة 2009، بعض مؤشرات الأزمة، وإن كانت الجماعة، تحرص دائما على ترك ورش النقد الذاتي داخليا، وتنزعج من أي تصريف للخلاف الداخلي في الإعلام.
أما الأزمة الثالثة، فهي أزمة الانسحاب من حراك 20 فبراير، بعد أن كانت الجماعة تؤمل في أن تكون لحظة الحراك لحظة مفصلية حاسمة، يتم فيها القطع مع الاستبداد والفساد، ويتم التخلص من السلطوية على شاكلة ما وقع في تونس ومصر، فوجئت بواقع تغير المبادرة السياسية لغير صالحها، مما اضطرها إلى الانسحاب من الحراك والدخول في أزمة جديدة.
نعيد تركيب الصورة، حتى يتم فهم عمق هذه الأزمة، فقد كتب موقع الجماعة مقالين اثنين تقرأ فيهما دلالات الثورة في كل من تونس ومصر، وجهت في الأول (في بيت جيراننا حريق) رسالة سياسية إلى الحكام بكونهم لا يتعظون بما جرى "ولا يسارعون لمعالجة الأسباب من الجذور، بل يتمادون في أسلوب الوعود والمسكنات التي لا تطرد داء ولا تعجل شفاء" وحاولت في مقال" قبل فوات الأوان"، أن تقدم مطالبها العشر للقطع مع الاستبداد السياسي والتأسيس لدولة العدالة الاجتماعية والحريات.
أما بخصوص شكل تعاطيها مع حراك 20 فبراير، فقد صرفت الموقف عبر قطاعها الشبابي، واعتبرت الربيع العربي محطة تاريخية لاستعادة بعض البريق لخيارها السياسي الذي فقد كثيرا من جاذبيته خاصة بعد 2006، بل اعتبرته دليلا على صوابية اختياراتها السياسية، وفشل الاختيارات السياسية التي تراهن على الإصلاح من داخل النظام السياسي، غير أنها ومع اطراد الديناميات السياسية للفاعلين السياسيين الآخرين، وجدت نفسها في مأزق صعوبة تحقق رهانها، وخطأ تقديرها السياسي للمرحلة، مما دفعها إلى الانسحاب من الحراك، بعدما صارت عاجزة عن تحمل كلفته.
بيان الانسحاب الذي أصدرته الجماعة، يكشف هذه الأزمة، بل يكشف محدودية استشرافها، وضعف تقديرها السياسي، فقد اضطرت بعد مسار من المشاركة في الحراك للانسحاب معللة ذلك، بسياق الأحداث المصاحبة للحراك الشعبي، وعدم التزام أطراف مشاركة فيه بالمبادئ المؤطرة لهذه المشاركة، وحصول حالة حرف الحراك عن مطلبه الأساسي، وتبعثر الجهود في معارك هامشية، وإصرار البعض على فرض شروط لا تساعد على حرية الحركة داخل إطار 20 فبراير، مع تضخم الهالة المحيطة بالوسيلة على حساب الغاية المطلوبة.
بخصوص شكل تعاطيها مع حراك 20 فبراير، فقد صرفت الموقف عبر قطاعها الشبابي، واعتبرت الربيع العربي محطة تاريخية لاستعادة بعض البريق لخيارها السياسي الذي فقد كثيرا من جاذبيته خاصة بعد 2006، بل اعتبرته دليلا على صوابية اختياراتها السياسية، وفشل الاختيارات السياسية التي تراهن على الإصلاح من داخل النظام السياسي،
إن الذي يقارن بين خطاب الأماني المعسولة التي انطلق مع تأمل دروس الثورتين التونسية والمصرية، وما تضمنته من رهانات كبيرة للجماعة على اللحظة المفصلية للحسم التاريخي، ببيان الانسحاب المتحسر على الشروط التي أضعفت الحراك ودفعت الجماعة للتحلل منه، يكشف جانبا من أزمة الرهانات السياسية التي يصر الكاتب الناقد على إنكارها.
أردت أن أتقاسم مع الكاتب هذه المقالة التفاعلية، وإن كنت أحجمت كثيرا عن ذكر نصوص لبعض القيادات السابقة للجماعة، والتي ذهبت في توصيف الأزمة مذهبا أقسى مما ذهب إليه الكاتب، وذلك حينما وصفت بعض خيارات الجماعة ومقترحاتها بأنها "تبتعد بها شيئا فشيئا عن مربع السياسة"، وتصورها بـ"دون مشروع سياسي يحظى بالجاذبية والمصداقية، ويمتاز بالوضوح والمسؤولية" وأنها تحمل "رؤية سياسية جامدة" تتأسس على "اجتهاد سياسي لا يعرف التطوير والتعديلُ إليه سبيلا"، وأن دعوتها للميثاق، "دعوة تتعامى عن الواقع السياسي المعيش، ولا تكاد تُقيم اعتبارا لموازين القوى المتحكِّمةِ فيه، بل نجدها تتعالى على هذا الواقع، وتهربُ من مواجهتِه إلى جميلِ النظريات ومعسولِ الأمنيات".
قبل الختام:
بقي أن أناقش الكاتب الناقد في مسألتين اثنتين:
ـ الأولى، تهم رسالة الإسلام أو الطوفان، وانزعاج الكاتب الناقد من تحليلي لمقاصدها، لاسيما تأكيدي أن الشيخ عبد السلام ياسين، كان يقصد من ورائها حصول ألق لدعوته، وأني لم أنظر إلى جانب النصح والجهاد فيها، والكلفة التي كان سيدفعها من جراء موقفه (حياته ثمنا لموقفه الناصح).
والحقيقة أن الباحث لا يتعامل مع المواقف والسلوكات المرصودة باعتبارها بطولات، أو عمليات استشهادية، فهذا شأن المناضلين الذين تربطهم بالتنظيم علاقة عضوية، يدافعون بمقتضاها عن مرشدهم، أما بالنسبة للباحث الموضوعي فيقرأ النص، ويستنطقه، فالشيخ ياسين كما صرح بذلك في مقدمة الرسالة، قصد من رسالته رد فعل الملك، ودليل ذلك قوله في وصفها أنها: "رسالة تفرض الجواب عنها فرضاً، وحتى السكوت عنها جواب بليغ. إنها رسالة مفتوحة، حرصت أن تحصل في أيدي الأمة قبل أن تصل إليك منها نسختك".
وقد أصر الشيخ ياسين على التعريف بنفسه، باعتباره من رجال الصوفية المصلحين، وأنه صار شيخا مصحوبا له أتباعه بعد ثلاث سنوات من وفاة شيخه "وأذكر نعمة الله عليَّ في الملإ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة" وبين قصده بطريقة الإيماء التي يفهمها الملوك، وذلك بقوله مباشرة بعد تأكيد مشخيته الصوفية: "لكن ملك المغرب بمعرفته حقيقة الوضع السياسي، وحقيقة المتصوفة والزوايا التي يلعب بها كما يشاء، أقرب الناس أن يتلقى شهادتي بالبصر النافذ".
كان من الممكن الاكتفاء بهذين النصين، لفهم الإشارة التي استنتجها الباحث، وإلا فللكاتب الناقد أن يشرح للقارئ دواعي تأكيد الشيخ ياسين على أنه شريف النسب، وأنه إدريسي، "وأزيد إيضاحاً أجده ضرورياً هو أن ابن الفلاح البربري الفقير إدريسي شريف النسب"، وما السبب الذي دعاه إلى ذكر الخصومة بين الأدارسة والعلويين، في نصيحته حين قال:" وتستحق مني النصيحة بكونك ملك هذه البلاد، وتستحقها مني صلة للرحم عبر العداء المزمن بين أسرة الأدارسة والأسرة العلوية" اترك للكاتب الناقد أن يحلل بنية الخطاب والمسكوت عنه فيه، فهذ يدخل ضمن متعلقات العلوم الاجتماعية ومقترباتها المنهجية، ولا دخل لخطاب الانتماء والنضال بفهم مضمون الرسالة ومقاصدها السياسية.
ـ والثانية، تهم التمييز بين مكوني العدل والإحسان، الجناح التربوي الأرثودوكسي، والجناح السياسي البراغماتي، وهو استنتاج تم تخريجه من خلال كتابات نقدية محدودة لبعض قيادات الجماعة فضلا عن مقابلات مطردة مع عدد من ناشطي الجماعة ومثقفيها، ممن يجمعنا معهم هم بحثي واحد، وإذا كان للباحث من مؤشرات كافية لدحض هذا الفهم، غير لغة النضال، فالباحث منفتح على سماع حججه وتعديل فهمه لما يجري داخل العدل والإحسان من صراع النخب وصراع الأجيال أيضا.
إقرأ أيضا: المغرب.. "العدل والإحسان" أزمة نسق وأزمة خيار (1من2)
المغرب.. "العدل والإحسان" أزمة نسق وأزمة خيار (1من2)
أضواء على تبادل المواقع القيادية داخل إخوان العراق (2من2)
هل يعيش بلال التليدي أزمة موضوعية تجاه العدل والإحسان؟(2من2)