كانت أمي (آسية) وخالتي (زبيدة) يتيمتين
صغيرتين، حين كانتا تودعان أخاهما من أمهما (لطف) الذي سحب عنان حصانه عائداً باتجاههما،
لينادي أحد المودعين لا تنس أن تشتري لأختيّ الملابس الملونة كأقرانهن من الفتيات،
وكذلك العرائس التي يصنعها (سالم اليهودي).
أعطهن كل ما يتمنين، كل غلتي ونصيبي
لهما!
كان لطف يلقب بالفارس، وبالرغم من أنه
لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره إلا أنه كان
مثقفاً طليعياً ورائداً تنويريا، وكان يرتدي (الطربوش) عوضاً عن (العمامة) التي كانت
تحدد هويته الاجتماعية كعضو في (أسرة قضاة) كان يعبر بهذا عن الحداثة التي كان يرمز لها الطربوش في أربعينيات القرن العشرين.
وأيضا كتعبير لرفضه للتقسيم الطبقي
الاجتماعي الذي سنه (أئمة اليمن) - جعلوا العمامة فيه رمزا- وقسموا الشعب خمس طبقات:
"السادة، القضاة وكبار الموظفين، التجار، المهنيين والمزارعين، ثم طبقة الخمس
التي لا يناسبها أحد ولا يحق لأفرادها التعلم"، وكان الغرض من ذلك التقسيم هو
أن يثبتوا أنفسهم كسادة لليمن.
غادر لطف عبدالله الإرياني ليشارك في
صنع فرحة وهبة الثورة اليمنية الأولى في عام 1948، التي لم تلبث أن تنطفئ في أسابيع بسبب أخطاء في الاستعجال والتنفيذ
وخسارة دعم الجارة السعودية، التي دعمت الإمام أحمد في قضائه على الثورة اليمنية البكر،
والذي سيستبيح صنعاء بالقبائل الهمجية ويُعمل
سيفه في قادة الثورة، ويزج ببعضهم الآخر في غياهب السجون..
وكان نصيب بطلنا لطف سجن ( الرادع)
الرهيب.
بعد مدة طويلة أطلقه الإمام أحمد الرهيب
من سجنه الرهيب فمات من ليلته.. وبعد عقود كنت أسأل عن سبب موته.
الأغلبية أجمعوا أنه سُمم يوم إخراجه،
ولكن الدكتور عبدالعزيز المقالح اعتقد أنه أصيب
بالسل في السجن- هناك مناضل إرياني آخر مات بالسل في سجن حجة (مدينة شمال غرب اليمن)
هو القاضي محمد بن محمد الإرياني الذي سجن هناك بعد فشل الثورة الثانية 1952.
وروت لي زوجة (الأستاذ السري) -وكان
مدرساً في إريان وتزوج هناك- لحظاته الأخيرة:
"ظل
يصلي في جُبا (سطح) البيت إلى آخر الليل، ثم استلقى في مهجعه وأسلم روحه لباريها".
كانت أمي وخالتي مازالتا تنتظران عودته
إلى اليوم في أطراف إريان (قرية تقع في شمال محافظة إب وسط اليمن) لعله يظهر قادماً من
أعلى الجبل، لم تفهما حين أتت أشياؤه وملابسه أنه لن يعود، فظلتا تنتظرانه بملابسهما الملونة وعروستهما (فنون). و حين كبرتا لم تعرفا
قبره لتزوراه فظلتا تنتظرانه.
تذكر لي أمي آخر كلمة سمعتها منه حين
سألته لماذا ستسافر؟
قال: "لكي (أنهضَ) الإمام"
واليوم من خوفها أمي تطلب مني دائماً، ألا أُناهض الحُكام، وأن أعيش بسلام، وتدعو هي
على كل ظالمٍ جبان.
في جلسةٍ صافية قال لي الدكتور حسين
الإرياني رئيس جامعة تعز الأسبق رحمه الله،
وهو يرى حماسي في نقاش ما: "لقد ذكرتني بخالك لطف".
لا أجد نفسي حقيقةً أشبهه -شتان بين
الثرى والثريا- لكن ما أعجبني أنه مات بصمت وما زال الكثيرون يذكرونه ثائراً حُراً بطلاً، وإن كان لا يذكر في
الندوات التقليدية عن الثورات اليمانية، أو وسط رموز الثورة المكررين.
لكن ذكراه -وذكرى آلاف مجهولين مثله في الأرض معروفين عند
ملائكة الرحمن- ما زالت مغروسة في نفوس المخلصين، ولا تزال قصته أسطورة حقيقية، تروى
اليوم في مجالس الطيبين كما تليق ببطلٍ يمانيٍ أصيل.