قام المجتمع الأمريكي على موجات الهجرة الأوروبية الأولى، وكان مجتمعا أبيض متجانسا. وهذا هو السبب في ثورة الأمريكيين ضد بريطانيا التي اعتبرت أمريكا مستعمرة، وكانت مطالب الأمريكيين أنهم مواطنون بريطانيون وهم امتداد لبريطانيا، ولذلك لا يجوز للسلطات البريطانية في أمريكا الشمالية اعتبارهم من سكان المستعمرات.
ظل المجتمع الأمريكي أوروبيا، وقامت الولايات المتحدة ودستورها على هذا الأساس، وفتح الدستور الباب للتعديلات التى تقتضيها الظروف. ولما كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى العبيد الذين يعملون في المزارع الجنوبية، فقد استقدم السادة الأوروبيون المستعمرون لأمريكا الشمالية دفعات من العبيد من أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكان الانفجار الاجتماعي والسياسي الأول، عندما أصدر أبراهام لنكولن قانونا بتحرير العبيد، ما أدى إلى ثورة الجنوب على هذا القانون. واضطر لنكولن إلى تثبيت النظام الاتحادي ومحاربة الولايات المتمردة، ودخلت البلاد في حرب أهلية استمرت عامين (1854-1856)، خرج بعدها النظام الأمريكي منتصرا، كما زُرعت أول بذرة في محاربة
العنصرية البيضاء.
ولكن القانون الأمريكي لم يتمكن من صهر المجتمع الأمريكي في بوتقة واحدة، حتى بدأت الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية تتوق إلى تعديل وضعها العالمي، خاصة بعد مؤتمر برلين (1884-1885) الذي نظمه بسمارك. وسجلت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر إرهاصات النزعة إلى العالمية واستخدام المسرح الأوروبي لتغيير المركزية الأوروبية.
وكان من سمات الدولة العالمية أن يكون لها مستعمرات، فاحتلت الولايات المتحدة الفلبيين وكوبا. وهكذا استكملت الولايات المتحدة شروط الدولة العظمى بمقاييس ذلك الزمان، وبقي أن تعلن دولة عظمى على المسرح الأوروبي، فجاءت فرصة الحرب العالمية الأولى، خاصة أن الغواصات الألمانية عرقلت التجارة الأمريكية مع دول أمريكا الجنوبية. ومعلوم أن الرئيس وودرو ويلسون هو من تولى قيادة الوفد الأمريكي في مؤتمر فرساي، وأنه رغم تدخل الولايات المتحدة بشكل حاسم في الحرب الأولى، إلا أن فرنسا اضطرت الولايات المتحدة وفرضت خطا مغايرا للانتقام من ألمانيا. ولكن الكونجرس الأمريكي رفض انضمام بلاده إلى صلح فرساي بأغلبية صوت واحد، فقررت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت الاستعداد لجولة أخرى، خاصة بعد أن قامت الثورة الشيوعية 1917 ومثلت تهديدا للديمقراطية الأوروبية. ولم يلبت هتلر أن ظهر في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وانتهى الأمر إلى دخول واشنطن الحرب الثانية في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 1941، وقادت جهود إنشاء نظام عالمي جديد وهكذا.
المهم أن المجتمع الأمريكي شهد موجات جديدة من الهجرات اللاتينية منذ الربع الثاني من القرن 19، ثم هجرات الشرق الأوسط في أواخر القرن نفسه، وصارت الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية قبلة الهجرات كافة.
وهكذا تشكل المجتمع الأمريكي والأمة الأمريكية من هجرات، وأصرت على نبذ العنصرية والاطمئنان إلى القانون، ولكن كان المجتمع من حين لآخر يعاني من تقلصات تنبه إلى وجود فجوات بين النصوص والواقع. وسجّل التاريخ الاجتماعي الأمريكي الكثير من ثورات السود والملونين ضد التمييز، وكانت قوانين الهجرة مؤشرا على هذه السياسات. بدأ الحزب الجمهورى إزاء موجات الهجرة التي تهدد الهوية الأمريكية التركيز على القومية الأمريكية البيضاء، بينما اتجه الحزب الديمقراطي إلى توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية، رغم اتحاد الجذر الأبيض في الحالتين.
ولا شك أن القومية البيضاء الأمريكية تضيّق على المهاجرين وتعادي الأجانب والإسلام، وتتحصن بالقيم المحافظة للمجتمعات الأوروبية القديمة. وظهر ذلك بشكل خاص مع الرئيس بوش الابن الذي غزا العراق تلبية لرؤية لاهوتية ولأسباب دينية، ولا علاقة بين المزاعم التي ساقها مبررا للغزو ويين الدافع الأساسي الذي تحدث هو نفسه عنه.
وكان نكسون هو من قدم الإسلام كعدو جديد بعد اختفاء العدو السوفييتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وذلك في كتابه الصادر عام 1988 بعنوان "نصر بلا حرب". وهو من أطلق الإرهاب الإسلامي، وعمّق بوش الابن المصطلح، وكان ذلك مبررا للاعتداء على الدول الإسلامية العراق وأفغانستان، والمزيد من التقارب مع إسرائيل واضطهاد الجاليات الإسلامية داخل الولايات المتحدة وأوروبا والإساءة إلى مقدساتها ورسولها. وعند تولي الرئيس أوباما كان بشارة بأن المجتمع الأمريكي تخلص من عنصريته البيضاء، ولكن عداء
ترامب لأوباما على أساس عنصري كان كافيا لفهم مصادر إبراز المعسكر الأبيض.
وهكذا، كان لترامب فضل تفجير المجتمع الأمريكي، فظهر أنه مجتمعان: الأول أبيض صاحب الأرض والسلطة، والثاني بدأ عبيدا، ثم لما تحرروا انضموا إلى موجات الهجرات غير البيضاء إلى هذا المعسكر.
فهل انقسم المجتمع وانكسرت وحدته أم يتدارك العقلاء الموقف؟
بصرف النظر عن ترامب وتصرفاته، فإننا نعتقد أنه أحيا الشعبوية البيضاء، وكان اقتحام الكونجرس أعلى درجات الحمى العنصرية والخروج على الدستور.
والغريب أن ترامب يحشد أنصاره للدفاع عن القانون الذي يعتقد أنه أهدر خلال الانتخابات. وكانت الانتخابات مجرد مناسبة لانكسار المجتمع الأمريكي، فهل يعاد بناء الأمة الأمريكية أم توضع نهاية للديمقراطية الغربية عموما؟
الأمة الأمريكية على مفترق الطرق، والفريقان تقريبا متساويان؛ فريق الديمقراطية والدستور وفريق الدولة البيضاء العنصرية، والفارق بينهما ضئيل، وهذا هو ما صنع الأزمة وكشفها.
ولذلك؛ لا بد أن تُدرس الأزمة دراسة موضوعية مهما كان مصير الأزمة، ذلك أن تولي
بايدن ورحيل ترامب لن يحل الأزمة البنوية في الأمة الأمريكية، فقد عبر ممثلو الفريقين عن الخط الذي يتبناه كل منهما. فقد أكد ممثل الفريق الديمقراطي الدستوري أن كل دولة لها ملك، وملك الأمريكيين هو الدستور. وشرح العقلاء أن الخلاف بين الطرفين ليس خارج الدستور، ولكنه حول تفسير الدستور؛ ذلك أن ترامب صرح بأنه يريد العودة إلى تصحيح الدستور وأن بايدن سرق الانتخابات بمختلف الحيل، كذلك يدعو بايدن إلى احترام الدستور. ومعنى ذلك أن القضية اجتماعية لها انعكاس دستوري، وكان سهلا على المحكمة العليا أن تحل المشكلة الدستورية، ولكن يبقى أن المجتمع انقسم بين فريقين لهما مواقف وتاريخ: إما العودة الآمنة المتفق عليها إلى الدستور أو انقسام الأمة إلى دولتين، فهل نشهد عودة الديمقراطية أم نشهد انهيار الولايات المتحدة؟