بعد عقد من إطلاق العرب ثورة إقليمية، إنها القارة المجاورة التي تغيرت إلى الأبد
بعد مرور عقد على انطلاق الربيع العربي لم
يطرأ تحسن يذكر على أوضاع أولئك الذين وقفوا في وجه الحكام الطغاة في العالم
العربي وطالبوا بحياة أفضل. فمعظم البلدان التي انطلقت فيها الاحتجاجات ثم تحولت
بعد ذلك إلى عنف ما تزال محكومة من قبل أنظمة استبدادية بات الظلم والفساد فيها
نمط حياة بينما استمرت المصاعب الاقتصادية بلا هوادة.
إلا أن قارة أوروبا لم تعد في نفس الحال الذي
كانت عليه قبل عام 2011 – ولأسباب تتعلق مباشرة بالثورات التي فشلت في الجوار.
فأوروبا اليوم منقسمة على نفسها. وما من شك في أن قرار بريطانيا التصويت لصالح
الخروج من الاتحاد الأوروبي كان، ولو جزئيا، رد فعل على أزمة اللاجئين التي ولدت
من رحم الانتفاضة الشعبية في سوريا وما آلت إليه الأوضاع هناك فيما بعد من حرب
أهلية. وما من شك أيضا في أن الأحزاب السياسية الشعبوية في مختلف أرجاء أوروبا
تحقق صعودا منذ سنين إذ تجني مكاسب استثمارها في المخاوف المتزايدة من الإسلام
والتطرف.
كما شهدت السياسة الخارجية الأوروبية تغيرا
ملموسا تجلى في احتضان بلدانها وبشكل متزايد للطغاة الجدد الذين ظهروا على الحدود
الجنوبية للقارة دون أدنى محاولة لستر نفسها بورقة من شجرة الأخلاقية الليبرالية
التي كانوا من قبل يتفيؤون ظلالها. والخلاصة هي أن أحداث الربيع العربي لم تفشل
فقط في تحويل البلدان العربية إلى كيانات أكثر استقرارا – بل تسببت كذلك في تآكل
الاستقرار الذي كانت البلدان الأوروبية يوما تنعم به.
في عام 2015 وجدت المستشارة الألمانية أنغيلا
ميركل أن من المستهجن حرمان السوريين من ملاذ آمن وهم الذين دمرت بيوتهم، بل ودكت
مدنهم بأسرها، تحت وطأة القصف الجنوني من قبل نظام بشار الأسد، ففتحت أبواب
ألمانيا أمام اللاجئين ليعبر إليها ما يقرب من مليون لاجئ. حينها أشاد الكثيرون
بالقرار واعتبروه إجراء سليما، إلا أنه نتائجه كانت شديدة وبعيدة المدى.
تقول إيما سكاي، الباحثة في معهد جاكسون
التابع لجامعة ييل إن الرغبة في تقييد الهجرة كانت الدافع الأهم من وراء القرار
البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومازالت تتذكر كيف كان الشعبويون يستثمرون
في إحساس قطاع كبير من الناس بعدم الاطمئنان ويحولونه لصالحهم. وتضيف: "تم
تصوير نايجيل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني اليميني المتطرف، وهو واقف أمام
لوحة ضخمة تحمل صورة للاجئين سوريين أثناء تواجدهم على الحدود بين سلوفينيا
وكرواتيا. كان مضمون الرسالة واضحا: ما لم تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي
وتستعيد السيطرة على حدودها، فسوف يجتاح اللاجئون بريطانيا. وكانت وسائل الإعلام
لا تكف عن تغطية أخبار الاشتباكات فيما عرف باسم "الغابة" – معسكر اللاجئين
غير الرسمي في كاليه – بين الشرطة الفرنسية والمهاجرين الذين كانوا يستميتون في
مساعيهم للوصول إلى بريطانيا."
بينما كان مئات الآلاف يستقلون القوارب أو
يسيرون على أقدامهم، ويمكثون شهورا بل وسنوات في مخيمات مكتظة، رجاء الوصول إلى بر
الأمان، رأى في ذلك الشعبويون فرصة سانحة، وهم الذين كانوا حتى ذلك الوقت هملا على
هوامش السياسة الأوروبية لا يؤبه لهم. لقد استغلوا مخاوف كثير من الأوروبيين بأن
وظائفهم قد ينتزعها منهم اللاجئون أو أن تواجد الناس من ثقافات مختلفة ومميزة –
وبشكل أساسي من دين واحد هو الإسلام – قد يحدث تبدلا في نمط حياتهم. تنبع الخصومة
مع اللاجئين من إسلاموفوبيا (خشية الإسلام) جذورها عميقة في أذهان كثير من
الأوروبيين. ثم ما لبث ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وسلسلة
الهجمات الإرهابية التي نفذها أعضاء في التنظيم أو مناصرون له في أوروبا أن عزز
مواقف الشعبويين وساعدهم. فقد فاقمت الهجرة من الخوف من احتمال أن ينفذ المتطرفون
المزيد من الاعتداءات، وبالمحصلة غيرت وجه السياسة الأوروبية، ربما إلى الأبد.
كثيرا ما تهيمن مشاعر الكراهية تجاه الأجانب
على الحوارات التي تجري على طاولات القهوة في أوروبا، وحتى في مدن كانت تعتبر
معاقل الفكر الليبرالي مثل باريس وبرلين. فالمجتمع السياسي هناك منقسم بين أولئك
الذين يشعرون بواجب أخلاقي يملي عليهم مساعدة اللاجئين وأولئك الذين يرون أنهم
يشكلون عبئا عليهم، بين أولئك الذين يبذلون جهدا في التمييز بين الإسلام والتطرف
الإسلامي وأولئك الذين يعبرون صراحة عن الإسلاموفوبيا.
كما شهد العقد الماضي اختبارا لما كانت أوروبا
تدعي الالتزام به من قيم في سياستها الخارجية. فرغم أنها ترفع راية الدفاع عن
الحرية والديمقراطية إلا أنها تنقصها الرغبة في نشر هذه القيم خارج حدودها، وكان
من تداعيات ذلك أن خابت آمال كثير من الشباب العربي فيها بعد أن كانوا يتطلعون
إليها، وباتوا بشكل متزايد يرون أن الحكومات الأوروبية لا تأبه إلا بما يخدم
مصالحها.
وها هما عملاقا أوروبا، فرنسا وألمانيا،
يتعاملون بشكل معتاد مع رئيس مصر عبد الفتاح السيسي، الدكتاتور الذي حل محل الرئيس
الإسلامي الذي شكل حكومة بعد خلع الدكتاتور حسني مبارك الذي حكم مصر لسنوات طويلة.
ففي وقت مبكر من هذا الشهر (ديسمبر / كانون الأول) فرشت فرنسا السجاد الأحمر
للسيسي وقلدته أعلى وسام في الدولة، وسام جوقة الشرف، دون أن يؤثر على القرار الفرنسي
القمع الذي يمارسه السيسي بحق المعارضة السياسية بكل أطيافها، من إسلاميين
وليبراليين، ولا العدد الهائل من المعتقلين السياسيين، الذين يقدرهم النشطاء بما
يقرب من ستين ألفا، ممن يقبعون في سجون مصر، ولا القيود الصارمة التي تفرض على
حرية الصحافة، ولا حالة الرعب التي يعيشها نشطاء المجتمع المدني.
يقول جوليان بارنيز دايسي، مدير برنامج الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية، إن الربيع العربي شكل
فرصة لإعادة تشكيل التطورات على الأرض، إلا أن أوروبا أخفقت في القيام
بدورها. ويضيف: "ظل التركيز الأوروبي ينحصر بشكل متزايد في تحديات الأمن
والهجرة مع تناقص القناعة الذاتية بالقدرة على دفع المنظومة السياسية في المنطقة
للتوجه نحو الأفضل. وبعد مرور عشرة أعوام على الانتفاضات عاد بعض الأوروبيين الآن
إلى تبني فكرة الاستقرار السلطوي، كما هو متمثل في الاحتضان المتزايد للرئيس
السيسي في مصر."
في ليبيا تدخل حلف شمال الأطلسي بقيادة كل من
فرنسا وبريطانيا وتمكن من الإطاحة بمعمر القذافي، إلا أن الفراغ السياسي أفضى إلى
اندلاع حرب بين مختلف الأطراف المتنافسة – الإسلاميون، المتطرفون، القبائل، نجل
القذافي سيف القذافي، والمشير خليفة حفتر، مما أغرق ليبيا في مستنقع من الفوضى
العارمة. كان يتوقع من أوروبا أن تدير الوضع في ليبيا ما بعد القذافي بما يدفعها
في اتجاه تحول سياسي ديمقراطي، ولكنها ظلت عديمة الفعالية، والسبب الرئيسي في ذلك
أنها لم يكن لديها لا الاهتمام ولا الخطط اللازمة لتحقيق الاستقرار في البلد، كل
ما فعلته ببساطة هو أنها غضت الطرف وأشاحت بوجهها ولم تبال. في المحصلة غدا الصراع
في ليبيا تنافسا بين معسكرين: هناك من جهة تركيا وقطر، اللتان تدعمان الحكومة
المعترف بها دوليا، والتي يدعمها أيضا تيار الإسلام السياسي، وهناك في المقابل
الإمارات والمملكة العربية السعودية، اللتان تعتبران تيار الإسلام السياسي عدوهما
اللدود وتريان في حفتر الرجل الذي بإمكانه أن يكسب الحرب لهما.
في الظاهر يدعم الأوروبيون عملية السلام التي
تم التوصل إليها بوساطة من الأمم المتحدة، إلا أن بعض سياساتهم لا ينجم عنها سوى
إطالة أمد الحرب. فعلى سبيل المثال، باعت ألمانيا أسلحة للطرفين المتحاربين في
الصراع الليبي، ولكنها – ومثلها في ذلك مثل إيطاليا – لا تدعم أيا من الطرفين
سياسيا. أما فرنسا، فهي متهمة بتسليح قوات حفتر ضمنيا، حيث يراهن الرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون على أن يتمكن الرجل القوي حفتر من احتواء المهاجرين، والمتطرفين
من بينهم بشكل خاص، الذين يسعون للوصول إلى أوروبا. وكان المحللون الفرنسيون قد
قالوا بأن انعدام الاستقرار داخل فرنسا مرتبط بالتشدد الإسلامي المتواجد في بعض
البلدان الأفريقية التي تشكل حزاما يمتد من الساحل إلى الصحراء، وهي البلدان التي
كانت من قبل مستعمرات فرنسية.
في الماضي كانت لأوروبا علاقات تعاملية مع
القذافي شبيهة بتلك التي تقيمها اليوم مع كل من السيسي وحفتر. ففي عام 2010 طلب
القذافي من البلدان الأوروبية ما مقداره خمسة مليارات يورو سنويا إذا ما كانوا
يريدون منه وقف الهجرة غير الشرعية وتجنب ما يقال إنه وصفه حينذاك بعبارة
"أوروبا سوداء". إلا أن استبداده هو الذي أدى في النهاية إلى اندلاع
الثورة ضده ثم إلى نشوب الحرب الأهلية وما نجم عن ذلك من هجرة جماعية إلى أوروبا.
لطالما لجأ الطغاة في أرجاء المتوسط إلى
التهديد بفتح بوابات التدفق أمام المهاجرين لأسباب اقتصادية وأمام المتطرفين، وذلك
كوسيلة لابتزاز أوروبا وإقناعها بأنها لا قبل لها بالاستغناء عنهم من أجل تأمين
حدودها. ثم جاء الربيع العربي ليثبت بأن الاستمرار في التعامل كالمعتاد مع الأنظمة
الدكتاتورية يعود بنتائج وخيمة على أوروبا. ومع ذلك، لم تزل تلك هي السياسة التي
تصر كثير من البلدان الأوروبية على تبنيها.
يقول جوست هلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط
في مجموعة الأزمات الدولية، إن أوروبا أساءت فهم طبيعة الربيع العربي منذ البداية
وظنت أنه حراك من أجل الديمقراطية. ويضيف: "لم يكن الناس في الميادين يثورون
بالدرجة الأولى من أجل الديمقراطية، ولكن الأوروبيين هم من أرادوا ذلك لهم. كل ما
كان يريده المتظاهرون هو حكومة أفضل، ولو لم يتسنى تحقيق ذلك، فإسقاط الأنظمة
الفاسدة التي لم تتجاوب مع مطالبهم. ثم عندما تمخضت الاحتجاجات عن مآلات عنفية
وفوضوية، غدا الأوروبيون أكثر حذرا، ولاموا الإسلام على غياب التقدم الديمقراطي،
ثم شددوا إجراءات السيطرة على الحدود في وجه اللاجئين والمهاجرين، الذين خشوا أن
يكون من بينهم جهاديون يسعون إلى الوصول إلى أوروبا. وفي النهاية عادت الحكومات
الأوروبية لتتبنى من جديد نموذج الاستقرار (أي دعم الأنظمة الاستبدادية – الشيطان
الذي تعرفه)، وهو النموذج الذي كان سببا في اندلاع الانتفاضات الشعبية بادئ ذي بدء."
وفيما يتعلق بسوريا، يوجد لدى أوروبا، رسميا،
موقف موحد، ولقد خصصت مبدئيا أموالا لإعادة الإعمار شريطة التوصل إلى تسوية سياسية
على أساس من قرار الأمم المتحدة 2254 الذي يطالب بإشراك الثوار في العملية
السياسية السورية، وبإطلاق سراح المساجين السياسيين ومحاسبة من ارتكبوا جرائم حرب.
ولكن فيما وراء الأبواب المغلقة يدعو الشعبويون في إيطاليا وفي عدد من البلدان
الأخرى إلى استئناف العلاقات مع نظام الأسد. بينما ترغب إيطاليا في التنسيق مع
أجهزة المخابرات التابعة للأسد بشأن المتطرفين الذين قد يكونوا عبروا الحدود
إليها، يؤكد أكبر أحزاب المعارضة في ألمانيا، حزب البديل، على أن السوريين يعيشون
في أمن وأمان تحت حكم الأسد وأنه حان الوقت لمغادرة اللاجئين. بدلا من المطالبة بتغيير
النظام، تراجعت طموحات أوروبا إلى المطالبة بتغيير سلوك النظام.
يقول أوليفير غويتا، رئيس شركة أمنية تقدم
المشورة للحكومات في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، إن رفض أوروبا التدخل عسكريا
في سوريا كان الخطيئة الكبرى التي دفعت بالغربيين المسلمين إلى أن يرتموا في أحضان
تنظيم الدولة الإسلامية. ويضيف: "لقد كان المنطق الذي يقنع الشباب الغربيين
{بالانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية} بسيطا جدا: من المفروض أن تدافع حكوماتكم
عن حقوق الإنسان ولكن حينما يتعلق الأمر بإنقاذ حياة المسلمين، فهي لا تعبأ بذلك.
نحن نحتاج إلى مساعدتكم فتعالوا وانضموا إلينا. ولقد علمت من مصادري في أجهزة
الأمن الأوروبية أن مستوى التهديد اليوم أعلى بكثير مما كان عليه في ذروة عهد
الدولة الإسلامية في 2015، تلك السنة التي شهدت شن هجمات كبرى في أوروبا."
إلا أن هناك من الخبراء من يشيرون إلى انهيار
ليبيا سببا في ذلك، ولا يتفقون مع من يرى بأن التدخل العسكري في سوريا كان هو
الإجراء الصائب. فقد كانت ساحة المعركة السورية تعج بكل أنواع الجماعات، بما في
ذلك الجهاديون وليس فقط المعتدلين الذين يشكلون الجيش السوري الحر. بالإضافة إلى
ذلك كان المحتجون الديمقراطيون والليبراليون قوة غير منظمة، بل ومبعثرة، فقد كان
نظام البعث يحكم بقبضة من حديد ولم يسمح بتاتا بظهور أي معارضة سياسية ذات معنى.
ولذلك كانت الوقائع على الأرض تصعب على أوروبا والولايات المتحدة القيام بعملية
عسكرية حاسمة حازمة ضد نظام الأسد.
ولكن على الرغم من كل إخفاقاتها، أرسلت أوروبا
مساعدات بمليارات الدولارات وظلت تحرص بقاء بعض حركات المجتمع المدني التي ولدت من
رحم الربيع العربي حية، حتى لو كان حملة المشاعل يقيمون في المنافي.
يقول بارنيز دايسي من المجلس الأوروبي
للعلاقات الخارجية: "يبدو أن الدرس الحقيقي هو أن الإصلاح الذي له معنى يحتاج
إلى رؤية للتغيير بعيدة المدى، رؤية تركز على تعزيز عملية التحول انطلاقا من
القاعدة باتجاه الرأس بدلا من السحب المفاجئ للبساط من تحت أرجل الأنظمة القائمة."
أنشال فوهرا كاتبة صحفية في فورين بوليسي تقيم
في بيروت، وتعمل كذلك مراسلة تلفزيونية حرة حول قضايا الشرق الأوسط.
(عن مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، ترجمة "عربي21")