كأنما رفع غطاء عن ميناء مدينة سوسة فجأة فانفجرت قضايا
الفساد دفعة واحدة، لكن هل الفساد في ميناء سوسة وحده أم أن كل مواني البلد تعج بقضايا الفساد؟ بل هل إن الفساد في
الموانئ وبوابات التوريد وحدها أم أنه مستشر في كافة مفاصل البلد وكواليس
الدولة؟
هذه الورقة ليست تحقيقا بوليسيا حول الفساد في
تونس، فهي لا تملك وسائل التحقيق، ولكنها محاولة فهم استشراء الفساد أو بالأحرى انكشاف بعضه دون البعض
بعد الثورة، عسى أن نفهم على الأقل بعض ما يصيب الدولة والمجتمع منه. إذ يبدو أن الدولة نفسها (أو ما كان يسمى سابقا بتونس) عاجزة عن فهمه بل ملاحقته والقضاء عليه.
الفساد يحرف نظرتنا إلى الفساد
يبدو أن الفساد في تونس يملك من القوة ما يحرف به نظرنا عنه فننظر نظرة جزئية لبعضه دون البعض فنتيه في مطاردته. كل نظرنا منصب منذ صدور تقرير لجنة عبد الفتاح عمر على الفاسدين الكبار. ولجنة عبد الفتاح عمر (رحمه الله)، أستاذ القانون، هي لجنة أنشأها ابن علي في لحظاته الأخيرة قبل الهروب بغية امتصاص
الغضب المتصاعد من الأطراف، ولكنه هرب قبل أن تقدم له نتائج ملموسة. ورغم ذلك وضعت بين يدي الدولة تقريرا كبيرا يحتوي قائمة
من الفاسدين الكبار، وقد ركزت على الذين احتالوا على الدولة بطرق شتى. وظل ذلك التقرير يوجه الكلام والحديث حول الفساد فتحول الى مظلة للتغطية على فساد آخر نشأ بعد ابن علي أو تعرى بعده.
حظي الفاسدون الكبار بحماية ما، فكلما قُدم أحدهم لمحاكمة ظهر أن عمله كان قانونيا أو يمكن تفسيره بتأويلات محددة، بما في ذلك فساد أصهار الرئيس المخلوع الذين لم يضاروا في أموالهم التي وجدت لها تغطية قانونية. وكانت طائفة من المحامين دوما حاضرة لتدافع (طبقا للقانون)، لذلك لم يأت من هذا الباب شيء يذكر، والفاسدون الكبار أو من رأيناهم كذلك يمارسون أعمالهم تحت الشمس.
ونميل إلى الاعتقاد أنه لن ينالهم سوء إذ نعاين أن إحدى ورقات دفاعهم الاستباقية هي دفع مكونات الطبقة السياسية إلى تبادل الاتهامات فيما بينهم بحماية الفساد، ومكونات هذه الطبقة تقع في هذا الفخ راغبة لذلك نشك في أنها متواطئة مع الفساد ولها في حروبها البينية مصلحة مع الفاسدين. تمول هذه الفئة الفاسدة إعلاما فاسدا يفلح في جر الجميع بعيدا عنها، فتنجو ويغرق البقية. ولكن ليس هؤلاء هم الفاسدون الكبار فعلا، فيوجد فساد أصغر بقليل ولكنه مستشر بما يسمح بتسميته بالفساد الأكبر.
ميناء سوسة عينة لا بؤرة وحيدة
مواد غذائية فاسدة في بلدانها وجدت طريقها إلى تونس عبر هذا الميناء،
ومزابل سامة من إيطاليا، وقطع غيار آليات مقلدة خارج القانون والمواصفات الصناعية، وما كان لها أن تجد تلك الطريق لولا طبقة من الفاسدين تطوف العالم بحثا عن شحنات عادمة أو سلع مضروبة تدخلها إلى البلد وتقبض (لا يمكننا القول أين قبض الثمن فهذا من عمل الأمن الذي لا نصل إليه).
متى تحررت يد هذه الفئات ومن غطى عليها حتى الآن؟ هذا جوهر الفساد الجديد الذي يخرب البلد. نرى أن هذه الفئات نشأت بعد
الثورة أو ربما تكون كانت قبل الثورة كامنة تنتظر، فلما ارتخت قبضة الدولة (يجب أن نقول قبضة الفاسد ابن علي الذي
كان يحتكر الفساد) أخرجت رؤوسها وبدأت تعمل لحسابها، وقد فهمت لعبة ابن علي وأصهاره فقلدتها.
حتى الآن توجه الاتهامات إلى رؤوس الجمارك وأعوانها وإلى متواطئين معهم في الإدارة، وتعتبر وزارة التجارة مكمنا جيدا لهؤلاء، فمن هناك تستخرج تصاريح الاستيراد وتعاين السلع الموردة وتنجو من كل رقابة فتصل المواطن فاسدة. ويمكن تخيل الأثمان المدفوعة في الطريق.. شبكات منسوجة بدقة وإحكام لم يمكن كشفها وإن كانت آثار سلعها في أجسام الناس سموما.
هذا فساد مختلف عما أشار إليهم تقرير الأستاذ عبد الفتاح عمر؛ إنه فساد زئبقي يحسن التخفي ويعمل بصمت ولا يركز عليه الإعلام بل يغطيه بذكاء، إنه فساد يستقوي بقوم في الإدارة يعرفون تراتيبها ويحسنون التحايل عليها. وإذا كان كشف الغطاء عنه بفضل قضاة شجعان في ميناء سوسة حتى الآن، فإننا نتوقع أن هذا الميناء ليس إلا عينة على بقية موانئ تونس الممتدة من بنزرت (شمالا) إلى جرجيس (جنوبا). هناك تعشش أجهزة فاسدة وتتعامل مع موردين فاسدين لا يتورعون عن شيء، وتعتبر مزابل إيطاليا السامة التي أريد لها أن تدفن في تونس مؤشرا كاشفا لأخلاق هؤلاء وطبيعة تفكيرهم وعلاقتهم بوطنهم، فهو عندهم مقبرة مزابل سامة ليس أكثر؛ ما دام المقابل أموالا طائلة تدخل حساباتهم البنكية.
الفساد أقوى من الحكومات طبعا
ذات يوم حاول رئيس الحكومة مهدي جمعة (2014) أن يقتحم ميناء رادس ليعاين بعض الإخلالات فلم يفلح في فتح مخازن المحجوزات، بدعوى أن حامل المفاتيح في عطلة (هكذا)، فعاد خاوي اليدين وضحكات الديوانة تتابعه. بعده حاول الشاهد فأحرقت مخازن في الديوانة، وقبلهما حاول حمادي الجبالي فلم ينل أية حظوة وخرج مهانا من الميناء الكبير. أما
المشيشي فنظن أنه يتملص هربا من هزيمة مماثلة حتى الآن.
الحكومات المتعاقبة لم تقو حتى الآن على اقتحام ميناء العاصمة التجاري، فكأنه مقاطعة مستقلة تحت حكم النقابات (نقابات العتالين/ مليشيا النقابة الكبيرة ونقابات الديوانة التي حاصرت محكمة سوسة كي لا تتم محاكمة زملاء وصلهم الاتهام في قضية المزابل الإيطالية). من الموانئ يأتي فساد لا قِبل لأحد به والجميع يعرفون ذلك ويخافون، لذلك يقول الجميع إن الفساد أقوى من الدولة بل هو الدولة الحقيقية.
ونذكر أنه في إطار حرف الأنظار عن هذا الفساد الكبير ركزت الأضواء على المهربين الصغار عبر الحدود الغربية والشرقية بدعوى أن المهربين يخربون الاقتصاد الوطني والصناعة الوطنية. ولسوء حظ المهربين الصغار فإن عصابات الإرهاب عششت بينهم وشاركت بدورها في التهريب، ولذلك استساغ الجميع لعن المهرب الصغير المتعاون مع
الإرهاب، في الوقت نفسه كان إرهاب الموانئ والإدارة المتواطئة معه يعبث بالبلد وبالحكومات وبالطبقة السياسية كلها دون أن ينبس أحد ببنت شفة.
الفساد يحل محل الدولة
إنه لا يفسد الدولة فقط بل يحول البلد الى بؤرة فساد دولية، وإلا كيف نفسر أن تصل معلومات تتعلق بالسلع الفاسدة المرفوضة في بلدانها إلى متلق في تونس يكمل استيرادها؟ في مكان ما يوجد قمح مسرطن مرفوض؛ من أوكرانيا إلى مصر، يصل خبره إلى مورد تونسي فيسعى في استيراده وتشتغل ماكينة التراخيص وتدخل السلعة.
أين الدولة؟ لا دولة ولكن ماكينة إدارية حلت محلها وتغطت بأختامها واشتغلت لحسابها بلا وازع أخلاقي. في الأثناء تصارع الحكومات نقابات تجرها إلى معارك جانبية، وفي الأثناء يختصم البرلمان بلجانه حول حقوق المثليين وقضايا مشابهة، وتنشغل آلة الإعلام بالتركيز على كل مشكلة فرعية، ويتقدم الفساد في الدولة حتى النخاع ويعلن نهاية ثقة المواطن بكل سلعة في السوق؛ لأنه قبل ذلك فقد ثقته في الإدارة حيث يستشري فساد ميكروسكوبي لا تراه العين، يعبر عن نفسه بشعار "افرح بي"، أي قدم لي إكرامية الخدمة التي هي من حقك ولكني لن أقدمها لك إلا بمقابل خاص. ويطمع الصغار في كل صغير حتى شحن الهاتف مجانا مقابل الإمضاء على ورقة بسيطة لتسجيل تلميذ في المدرسة.
قرأنا في مواقع كثيرة أن عمال المشرحة في مشافي مصر يطلبون من أهل المتوفى حلاوة الميت، ويا له من تعبير قاتل (أي رشوة مقابل إخراج الجثة للدفن).. خلناها نكتة، لكننا بدأنا نرى في تونس حلاوة القبر. فالحصول على قبر في مقابر تونس صار بالرشوة، قبل ذلك ابتدع الفساد في تونس قبض الرشوة للدخول في قائمة الحجيج الرسمية، أي حج بالرشوة.
وعندما نصل إلى هنا في الكتابة نسأل: هل نكتب الآن داخل دولة أم أننا صرنا نكتة بدورنا نمارس وهْم الانتماء إلى كيان سياسي لم يعد يشعر بوجوده أحد؟ لقد قضى الفساد بكل درجاته على شعور الانتماء الذي يجعل المواطن يقول أنا من الدولة الفلانية. نحن من دولة الفساد وموقعها الجغرافي هو في ما كان يعرف على خريطة العالم بتونس سابقا.