لا ندعي المعرفة ولا الإلمام بشؤون الحكم، ولكن إلماماً بسيطاً بشؤون الدنيا يسمح لنا بالقول إن وقف نزيف الخلاف الخليجي لا يكون بإحياء تضامن وتماسك خليجي كان ظاهرياً طوال عقود؛ ويقوم على جملة من التفاهمات والاتفاقات التي قادت في مجملها لتصدع البيت الخليجي والعربي.
وإطلاق رصاصة على هذا التماسك الظاهري بإعلان حصار قطر أدى لكشف كم هائل من الانهيارات المرافقة له، وانعكس ذلك على عموم المواقف العربية وتجاذبات السياسة القائمة على مصالح المحاور. وبعيداً عن نبرة "النصيحة" التي حملها جاريد كوشنير لعواصم الخليج العربي عشية مغادرته البيت الأبيض مع الرئيس ترامب، وظهور سحب الدخان الأبيض لينذر بعودة الوئام للبيت الخليجي بهدوء إعلامي، فإن رسائل الخلاف والمصالحة الخليجية أو العربية تُقرأ من عناوينها الأمريكية والإسرائيلية.
لا يَخفى على أي مراقب، الدور لذي لعبته إدارة الرئيس ترامب في إذكاء الخلاف الخليجي، وتغيير بوصلة أبو ظبي والمنامة نحو تل أبيب، فضلاً عن الانقلاب الجذري في المواقف من قضايا عربية كثيرة على رأسها القضية الفلسطينية، واتخاذ ذرائع وتبريرات كانت السبب في تدهور الموقف العربي ووصوله لمواقف صفرية التأثير على قضايا عربية وإقليمية ودولية، من قيادة الثورات المضادة وتمويل الانقلابات العسكرية في مصر واليمن وليبيا وسوريا، وإقامة تحالفات أدت لإغراق شوارع عربية بدماء وحطام لن ينجلي بسهولة.. إلى جانب غياب الفعل الغائب أصلاً عن القضايا الأساسية، وغياب الفعل والتأثير هذا كان السبب وراء اندلاع ثورات الربيع العربي، وسيبقى كذلك ما لم تتغير جذوره.
تاريخياً، كانت مشاريع التقسيم والخلاف العربي- العربي. لا تستند لأي مصلحة حقيقية. وتاريخ المحن أو الوئام الظاهري لم يستطع وقف عجلة الانهيار، وكل الوسائل التي امتلكها النظام العربي الدبلوماسية منها والعسكرية والاقتصادية، لم تكن في خدمة خلق حالة عربية جامعة؛ لا في شعاراتها ولا برامجها المكشوفة على انهيارات عميقة في العقد الأخير. وعليه، زاد الخلاف الخليجي من قساوة الحالة المهتزة والمهترئة للسياسة العربية، وضاعف من الشروخ المجتمعية التي نال منها تصويب السهام على الصدور والأعراض، وعلى التاريخ والحضارة والإسلام والمعتقد والفكر وحرية الرأي، وهي أيضاً أسباب مقيمة ودائمة في الحالة الطبيعية للوئام العربي الظاهري، فما بالنا مع الخلاف والانقسام؟
تصدعَ البيت الخليجي، كما تصدعت بيوت عربية أخرى من المحيط للخليج، تصدعٌ لا علاقة له بمسائل جوهرية تعني دريئة السهام، بل هو ما تطلبه إسرائيل وأمريكا والغرب من العرب من تنازلات وتفاهمات دون مقابل إلا الوظيفة المؤداة على نسق البيت الأبيض وتل أبيب. وما كشفته الثورات العربية مؤخراً مع حالة الوئام والتحالف القوي بين البيوت العربية المتهالكة والباحثة عن أوتاد خيامها في تل أبيب وواشنطن؛ يؤكد مرامي التصدع والتصهين الحاصل.
ودوماً كان الخلاف العربي على الوهم، والأوهام المبنية على شعارات وبرامج بعيدة كل البعد عن الإنسان العربي، لكنها متفقة ومتحدة ومتينة بحالة فرض القمع والقهر والدمار والتحطيم حفاظاً على كرسي الحكم أولاً وأخيراً. من المخزي والمعيب أن تكون قضايا حرية المعتقلين السياسيين والمفكرين والدعاة ونشطاء المجتمع المدني المعتقلين في العالم العربي؛ هي مطالب غربية يقدمها الحاكم العربي عربون تمدن وتحضر زائف لمصالحة زائفة مع مجتمعه.
كل الخلاف الخليجي ليس إلا جزءاً أو فرعاً من خلاف عربي كبير على قضية أساسية متعلقة بحرية وكرامة الإنسان العربي، وخلافا على رؤية القضايا العربية الكبرى المتعلقة بفلسطين ودحر الاحتلال وتنمية المجتمعات العربية وتخلصها من الاستبداد. وأي مصالحة عربية أو خليجية لا تقوم مبادئها على هذه الأرضية ستبقى هشة وضعيفة، كما هي حالة "التضامن العربي والعمل العربي المشترك" ومشاريع التنمية والتعاون البيني، وما إلى ذلك من خطط دونت في سجلات الاجتماعات العربية ولم يبق منها من العمل إلا ما تفعله وزارات الأمن الداخلي والدفاع في تحطيم العقل العربي وهدر كرامته في مجتمعاته وفي أقبية زنازين الأنظمة.
كلنا نتطلع لمصالحة عربية، لا نخشى مصلحتها المحصورة في مراقبة الإنسان العربي وهدر حريته وكرامته وإبعاده وعزله عن قضاياه المصيرية، وكلنا نتطلع لشجاعة عربية في المصالحة والمصلحة بغير التي ظهرت في أنياب الخلاف والمقاطعة وحصار الشقيق ودعم عدوه وفتح صالات المطارات لعتاة المستعمرين لأرضه، فهل ستكون تطلعاتنا نحو المصالحة الخليجية تحمل الخشية والخوف الكبير على ما تبقى من إرث أخلاقي وإنساني لقضايا العرب؟ وهل ستجبّ المصالحة الخليجية ما قبلها من انكسارات؟ التنبؤ بإجابات شفافة وصريحة ظهرت في الرياض وأبو ظبي والقاهرة والخرطوم ودمشق والمنامة، والتطبيع والتصهين وتحطيم الإنسان، هي إجابات لبون شاسع من القطيعة بين النظام العربي وشوارعه لتبقى المصلحة في دحر حرية الإنسان العربي فقط، وهي نبرة كوشنر الناصحة لإتمام المصالحة كما همساته لإتمام القطيعة.
مشروع الإصلاح: بوصلة الإصلاح العربي وكيفية ضبطها (5)
مبادرة اتحاد الشغل: حل للأزمة أم تعميق لها؟