تأسست جماعة "العدل والإحسان"، المغربية نهاية سبعينيات القرن الماضي، على يد الشيخ عبد السلام ياسين (1928 ـ 2012). وتعتبرها السلطات "جماعة محظورة"، فيما تقول "العدل والإحسان"، إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.
وبغض النظر عن الصيغة القانونية للجماعة، وحتى عن طبيعتها الدينية إن كانت جماعة سلفية أو صوفية أو إخوانية، أو إن كانت جماعة دينية لا علاقة لها بالسياسة، فإن "العدل والإحسان" كانت وإلى وقت قريب تمثل ثقلا سياسيا مهما في المغرب، وأسهمت إلى حد كبير في الضغط من أجل الوصول إلى دستور العام 2011، الذي فتح صفحة سياسية جديدة في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، بدخول الإسلام السياسي ممثلا في حزب العدالة والتنمية رسميا إلى المنافسة على الحكم.
إلا أن الجماعة ومنذ رحيل زعيمها المؤسس الشيخ عبد السلام ياسين، وعلى الرغم من سلاسة التغيير القيادي داخلها، حيث تولى قيادتها محمد العبادي بمنصب الأمين العام للجماعة، وظل لقب المرشد العام للجماعة ملتصقا بمؤسسها الشيخ عبد السلام ياسين، على الرغم من ذلك فإن أداء الجماعة السياسي قد أصابه الفتور، وغاب قادتها تقريبا عن المشهدين السياسي والإعلامي..
الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، يبحث في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21"، والتي ننشرها على حلقتين، عن أسباب تراجع أداء جماعة "العدل والإحسان"، بين الأسباب الذاتية والموضوعية.
بعد رحيل الشيخ ياسين: سؤال ما العمل، أم سؤال الخط النظري، أم سؤال القيادة؟
لم ينتبه الكثيرون إلى أن رحيل الشيخ ياسين لم يكن يعني فقط خسارة رجل داعية، ومفكر ومنظر، قدم الكثير للمكتبة الحركية الإسلامية، ولكنه كان يعني أزمة كبيرة تدخلها الجماعة، ولا يدري أحد كيف ستجد تدبيرها.
البعض يعتقد عند رحيل أي قيادة، أن المشكلة تكمن في خلافة هذه القيادة، أي في الآلية الديمقراطية التي تسد فراغ القيادة، لكن المشكلة في جماعة العدل الإحسان، ليست من نمط المشاكل التي تعترض التنظيمات التي تحتكم للديمقراطية في الحسم في قضية التداول القيادي، فالأمر في البراديغم الحركي الذي تتبناه العدل والإحسان، لا يتعلق بمجرد قيادة تنظيمية أو قيادة تمتلك الحس الحركي والسياسي، أو قيادة تملك القدرة على تجميع الصف والمضي برأي جماعي شوري، وإنما يتعلق الأمر ببراديغم حركي وروحي، يجعل للقيادة دورا روحيا وحركيا وسياسيا وتنظيميا وجهاديا، فالقيادة -حسب خط الشيخ ياسين- تشترط الصحبة والجماعة، والأدبيات الصوفية، بما في ذلك أدبيات الشيخ ياسين، حسمت في استحالة صحبة الميت، وأن شرط الشيخ لا يمكن تجاوزه في التربية الإحسانية والجهادية، أي تربية جند الله التربية الإيمانية، وتأهليه تنظيميا وحركيا للزحف.
مع موت الشيخ ياسين، طرحت ثلاث أسئلة مجتمعة، سؤال القيادة في علاقة مع الخط النظري، أي ضرورة استكمال نفس الخط، بتعيين شيخ مصحوب، يقوم بالدور نفسه، الذي كان الشيخ ياسين يقوم به، وفي هذه الحالة، فالإشكال سيصير عمليا، أي من هو الشيخ المؤهل للقيام بهذا الدور؟ وفي حالة اختياره، هل سيكون له سلطة على القيادات الأخرى التي احتلت مواقع في هيئات الجماعة، أم سيضطلع فقط بالدور التربوي، والآخرون سيضلعون بالمواقع، مثل الدائرة السياسية.
أما السؤال الثاني، فهو ما العمل مع القيادة الحالية مجسدة في الثنائي المنسجم، الأستاذ فتح الله أرسلان، الذي يضطلع منذ مدة بإدارة الجماعة والنطق باسمها، وممارسة خط التفاوض المباشر أو غير المباشر مع السلطة، والأستاذ عبد الواحد المتوكل رئيس الدائرة السياسية وصهر الشيخ عبد السلام ياسين.
أما السؤال الثالث، فهو سؤال ما العمل، وهل ستبقى الجماعة تحمل إرث الشيخ ياسين بمجموعه، بما في ذلك دخوله المستمر في الاحتكاك المباشر مع السلطة، أم أن الأمر يقتضي تهدئة التوتر إلى الحد الأدنى، وإيقاف مسلسل الاستنزاف في صراع طويل مع السلطة، خسرت فيه الجماعة في أكثر المحطات، لا سيما محطة الحراك الذي انسحبت من فعاليته وخسرت مكوناته، كما خسرت صورتها أيضا.
العدل والإحسان على خط الأزمة
الظاهر في سلوك الجماعة السياسي منذ رحيل الشيخ عبد السلام ياسين أنها تحرص على تطويق محاور التوتر مع السلطة، وتجمد كل تكتيكاتها السابقة في التموقع في بؤرة الصراع الاجتماعي، لكن ما يخفى هو الكيفية التي تدير بها صراعاتها وتوتراتها الداخلية، فثمة تيار داخل الجماعة، يؤمن بالخط الياسيني بشكل أرثودوكسي، ولا يقبل إحداث أي تغيير فيه، ولو بشكل عملي، وهو يشترط وجود الشيخ المرشد، بذات الأدوار التربوية والروحية، التي كان الشيخ ياسين يقوم بها، بل ويطلب بعض أطيافه إجراء تقييم شامل للمسار السياسي للجماعة، والأخطاء التي ارتكبتها من جراء وضع البيض كله في كفة السياسة، وإخلاء الثغر التربوي، وإضعاف جلسات النصيحة، التي راهنت عليها الجماعة لبناء التربية الإيمانية.
وثمة في المقابل، نخب وسطى (من الطبقة الوسطى وأطر الجماعة)، براغماتية، أصبحت تعتقد أن إرث الشيخ ياسين، يحول دون تقدم الجماعة سياسيا، وأنه، من الأفضل التعاطي معه بشكل عملي، من خلال قيادة براغماتية، تهدئ جبهة الصراع مع السلطة، وتبقي على وحدة الجماعة، باللعب على خطين، خط الانكفاء التربوي الذي يرضي التيار الياسيني الحرفي، والصمت السياسي، الذي يرضي الطرفين: التيار الياسيني التربوي الذي ينتقد التضخيم السياسي في عمل الجماعة، والنخب البراغماتية، التي تعتبر الصمت في هذه المرحلة أفضل بكثير من إحماء جبهة الصراع مع السلطة السياسية. أي أنه يمارس المراجعة العملية لخط الشيخ، ويظهر الصرامة الفكرية في عدم الانزياح عنها.
ولذلك، فالتقدير أن صمت "العدل والإحسان" إذا تم النظر إليه في سياق تحولي، أي بمقارنة مع ما دأبت عليه الجماعة من إظهار مواقفها، والحضور الإعلامي الكثيف، والتموقع في صلب التوترات الاجتماعية، فهو يعكس تدبيرا داخليا للأزمة، وتحولا إيجابيا في العلاقة بالسلطة.
قيادة العدل والإحسان، تدرك أن خط الشيخ ياسين، حقق ذروته في مرحلة ابتلائه السياسي، أي مرحلة إدخاله لمستشفى المجانين، ثم مرحلة اعتقال مجلس الإرشاد، والإقامة الجبرية للشيخ ياسين، وأن المنحنى التنازلي للجماعة بدأ مع رسالة "إلى من يهمه الأمر"، وتعمق مع فشل رهان رؤية 2006، وأن كل الجهود التي قامت بها الجماعة، لامتصاص الأزمة، فشلت، وأن منسوب استقطابها وتمددها، قد وصل إلى مستويات متدنية، وأن اللحظة التي قدرت فيها الجماعة أنها ستعيد الوهج والألق لخطها (أي مرحلة الحراك) ارتدت إلى العكس، بعد انسحاب الجماعة من مكونات الحراك، وفقدانها لصورتها، وأن وفاة الشيخ ياسين لم تكن صدمة لها، بل إيذانا بدخول براديغمها الحركي إلى دائرة الشك والمساءلة، إن لم نقل بلوغه إلى منتهاه.
إقرأ أيضا: المغرب.. هل تعيش "العدل والإحسان" مأزقا في مشروعها؟(1من2)
المغرب.. هل تعيش "العدل والإحسان" مأزقا في مشروعها؟(1من2)
إشكالية الزعامة عند الإسلاميين.. الجزائر نموذجا (2من2)
إشكالية الزعامة عند الإسلاميين.. الجزائر نموذجا (1من2)