الكتاب: "السلفية التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول"
الكاتب: الدكتور عبد اللطيف الحناشي
الناشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى- نوفمبر 2020،
(400 صفحة من القطع الكبير).
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، عرض كتاب "السلفية التكفيرية العنفية في تونس.. من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول"، للكاتب والمؤرخ التونسي الدكتور عبد اللطيف الحناشي.. ويركز في هذا الفصل عن دواعي التطرف والانزواء ثم تجليات ذلك من خلال علاقة المتشددين مع المجتمع المدني..
في دواعي الانزواء
يرى الدكتور عبد اللطيف الحنَّاشي، الباحث الاجتماعي المتخصّص في الحركات الإسلامية، أنّ محاولة النظام "مصادرة الفضاء العام دفع بالشباب إلى الانزواء في فضائهم الخاص، الذي يشكّل البيت جزءا مهماً منه". هناك تحوّلت دروس الدعاة المتشدّدين عبر الفضائيات الدينيّة إلى مراجع أعاد على أساسها الكثير منهم صياغة فهمهم للعالم والحياة. ويبيّن بحث سوسيولوجي نادر، تناول ملفّات 1208 من المحكومين سابقاً في قضايا السلفيّة الجهاديّة، أنّ 89 في المئة منهم شباب، وأنّ 70 في المئة منهم إمّا عمّال (ذو دخل محدود) أو تلاميذ وطلبة (لا دخل ثابتا لهم عموما).
ويشير حنّاشي إلى أنّ أغلب المشاركين في "خليّة سليمان" (نهاية 2006- بداية 2007) أتوا من المناطق الداخليّة الفقيرة. وهو ما أكّده أيضا أبو عياض التونسي (أبرز قادة الجهاديّة السلفيّة الذي يَعترف ضمنياً بارتباطه بـ "القاعدة") في مقابلة له قبل سنة مع الصحافي هادي يحمد، عندما زعَم أنّ 2500 جهادي في عهد بن علي كانوا من منطقة سيدي بوزيد، مهد الثورة. وإجمالاً، تُؤكّد الأحداث الواقعة بعد سقوط بن علي حقيقة تركّز الثقل الديمغرافي للسلفيين في الأحياء الشعبية للعاصمة وفي الجهات الداخليّة المحرومة. وهي المناطق نفسها التي طالما مثّلت معاقل لحركة النهضة أيضاً .
السلفية التكفيرية وتصاعد وتيرة أعمال العنف السياسي ضد مكونات المجتمع المدني
في الفصل الثاني، يتناول أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن في جامعة منوبة التونسية، الدكتور عبد اللطيف الحناشي الظاهرة السلفية التكفيرية العنيفة في تونس ما بعد انتصار الثورة التونسية وسقوط النظام الديكتاتوري السابق في 14 كانون الثاني (يناير) 2011، حيث عرفت البلاد التونسية تراجعاً كبيراً في قبضة الأجهزة الأمنية، واضطراباً واضحاً في سدّة الحكم، وغياباً حقيقياً لهيبة الدولة. وفي ظل الفراغ السلطوي الذي كان قائماً في تونس طيلة المرحلة الماضية ،إضافة إلى هشاشة الحكومة المؤقتة، تمّ سنّ "قانون العفو"في 11 آذار (مارس) 2011، فأُطْلِقَ سراح مئات العناصر السلفية الجهادية المرتبطين بتنظيم "القاعدة" أو بفروعها من السجون التونسية، في إطار قضايا "قانون مكافحة الإرهاب لعام 2003" (قُدّر عددهم بأكثر من ألفي متهمّ بالانتماء لـ "السلفيّة الجهاديّة"، منهم قيادات جهادية معروفة بارتباطاتها بتنظيم القاعدة)، من دون إجرائهم أيّة مراجعات نظريّة لمنهجهم العنيف، على عكس ما جرى في أقطار عربيّة أخرى، وتحديداً في مصر. وبذلك، مكنّت الثورة التونسية من إعطاء فرصة تاريخية للجماعات السلفية بكل تياراتها العلمية و الجهادية بصفة خاصة، من تنظيم صفوفها و حشد أنصارها حولها. أما بالنسبة للتوزيع الجغرافي لهؤلاء السفليين، فإنَّ 46% منهم ينحدرون من مناطق شمال تونس، و31% من وسط البلاد، في حين أن 23% فقط هم من أبناء الجنوب.
آنذاك ظهر السلفيون بلباسهم المميز ولحاهم الطويلة في العديد من المدن التونسية، لا سيما في العاصمة، وبنزرت، وسوسة، رغم أنهم لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة في الطيف الإسلامي الواسع، لكنهم يريدون فرض منظومتهم العقدية التي يؤمنون بها، ويقدسونها ويتمسكون بها ولا يقبلون فيها نقاشاً ولا حواراً بواسطة العنف المنهجي على مجتمع تونسي يغلب عليه الإسلام السني المالكي المعتدل، والتقاليد والقيم العلمانية في شكل واسع. وقد ترجم السلفيون المتشددون ظهورهم في الفضاء السياسي التونسي من خلال المواجهات المتفاوتة في حدّتها.
في غضون بضعة أشهر من عام 2011، وفي بلدان ثورات "الربيع العربي"وتغيير الأنظمة السياسية، في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا، برزت مجموعات "أنصار الشريعة" التي تعمل من أجل هدف واحد: إقامة دولة إسلامية في البلدان المتحررة من الدكتاتورية. من هم "أنصار الشريعة الإسلامية"؟ هم يشكلون "اتجاهاً جديداً آخذاً في الظهور في عالم الجهادية"، كما كتب عنهم الباحث الأمريكي آرون زيلين في مجلة السياسة الخارجية الأمريكية "فورين بوليسي" أو "تحولاً في تنظيم القاعدةط على حد قول أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة تولوز ماثيو غودير.
نشأ الشك بعد اكتشاف وثائق جمعتها القوات الخاصة الأمريكية في أبوت آباد شمال باكستان (المكان الأخير الذي كان يسكن فيه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن) رسائل البريد الإلكتروني لزعيم "القاعدة"، يتساءل فيها عن إمكان تغيير اسم منظمته. وفي القائمة الطويلة التي حررها بن لادن اسما "أنصار الشريعة" و"أنصار الدين"، فهناك شواهد تؤكد الروابط بين "أنصار الشريعة" وتنظيم "القاعدة"، باستثناء "أنصار الشريعة" في اليمن، علماً أن العلاقة العضوية مع تنظيم القاعدة أُقِيمَتْ بوضوح في نيسان/ أبريل 2011. ولكن على الرغم من أنَّ "أنصار الشريعة"لديهم الهدف نفسه، ويحافظون على الاتصالات في ما بينهم ـ وهو ما ينفونه، فإنَّ مختلف هذه الجماعات التي تحمل الاسم عينه وتدافع عن الهدف عينه، تبدو مستقلة نسبياً، وهي ليست وحدة فيدرالية تحت سلطة زعيم واحد. وقد ظهرت وجوه عديدة من "أنصار الشريعة"، لكنها تظل محلية.
يمكن التأكيد أن السلفيين الجهاديين التونسيين، هم جزء لا يتجزأ من شبكة دولية مرتبطة بتنظيم "القاعدة" وأخواتها، فتسمية "أنصار الشريعة" هي نفسها التي يعمل تحت لوائها أيضا السلفيون القاعديون في اليمن. كما أن أسلوب السيطرة على مدن صغيرة وإبعاد السلطات المحلية منها لإعلان تطبيق الشريعة، هو نفسه المستخدم في اليمن وتونس على السواء. ولولا تدخل بعض القوى الأمنية لمساندة الأهالي لأحكم السلفيون قبضتهم على مدينتي منزل بورقيبة، وسجنان في ولاية بنزرت عام 2011، من أجل تطبيق الحدود.
وقبل إقامة "إمارة سجنان"، هاجم العشرات من السلفيين في 26 حزيران (يونيو) 2011 قاعة سينما "أفريكا آرت" وسط العاصمة تونس ومنعوا بثّ شريط "لا الله، لا سيدي- NI DIEU, NI MAITRE" الذي جاهرت مخرجته التونسية نادية الفاني المقيمة بفرنسا بإلحادها. وحذّر الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة حينها السلفيين من الوقوع في "فخ الاستفزاز والانجرار وراء أعمال عنف قد تستغلها أطراف لتشويه صورة الإسلاميين في تونس مثلما كان يفعل نظام بن علي".
يمكن التأكيد أن السلفيين الجهاديين التونسيين، هم جزء لا يتجزأ من شبكة دولية مرتبطة بتنظيم "القاعدة" وأخواتها، فتسمية "أنصار الشريعة" هي نفسها التي يعمل تحت لوائها أيضا السلفيون القاعديون في اليمن. كما أن أسلوب السيطرة على مدن صغيرة وإبعاد السلطات المحلية منها لإعلان تطبيق الشريعة، هو نفسه المستخدم في اليمن وتونس على السواء.
وفي شهر رمضان عام 2011، هاجم عشرات السلفيين مطاعم خاصة بالمفطرين في محافظة جندوبة شمال غرب تونس، وأتلفوا محتوياتها وأحرقوا بعضها. وحاول العشرات من السلفيين المتشددين في وقت سابق اقتحام مقر قناة تلفزيونية خاصة "نسمة" لمعاقبة العاملين فيها وهددوا بحرقها بعد عرضها لفيلم "برسيبوليس" الذي اعتبروا أنه استهزاء بالذات الإلهية وتجسيد لها، فيما هاجم آخرون منزل مدير القناة التي بثت الفيلم وأضرموا فيه النار وهشموا محتوياته.
إلى ذلك اقتحم عدد من الملتحين المتشددين والمحسوبين على التيار السلفي كلية الآداب بمنوبة في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، وطالبوا بتمكين المنقبات من اجتياز الامتحانات وإقامة مصلى إضافة إلى فصل الذكور عن الإناث في المؤسسات الجامعية ورفضوا المغادرة قبل الإذعان لمطالبهم مما دفع المجلس العلمي إلى إيقاف الدروس وإغلاق الكلية لأكثر من أسبوعين. ورغم إخلاء الكلية في وقت سابق، فإن المعتصمين السلفيين عادوا للاعتصام ثانية مما عطل الدروس بصفة جزئية بسبب استعمالهم مضخمات الصوت لبث الأغاني الدينية كما قررت مجموعة من المنقبات تنفيذ إضراب جوع في تلك الفترة إلى حدود تمكينهن من اجتياز الامتحانات والدخول إلى قاعات الدروس.
وقال الحبيب القزدغلي عميد كلية الآداب في منوبة لأجهزة الإعلام التونسية: "هؤلاء يريدون فرض نمط مجتمعي عبر الجامعة، نابعة من عقيدتهم وهم يعتبرون أن المجلس العلمي التابع للكلية مجلس كفار كما أنهم يتسترون بمطلبي إقامة مصلى في الجامعة والسماح للمنقبات باجتياز الفروض ولكن الموضوع الأساسي الذي قدموا لأجله هو الفصل بين الجنسين وهو ما يحاولون إخفاءه على وسائل الإعلام".
وقام في وقت سابق عدد ممن يحسبون على التيار السلفي بمهاجمة أستاذة جامعية لأنها لا ترتدي الحجاب فيما سيطر آخرون على مطعم جامعي في محافظة قابس (جنوب تونس) وفرضوا تقسيمه على أساس جنسي، وخصصوا قاعة للطلبة وقاعة أخرى للطالبات وتهجم نظراؤهم على مدرسة تربية تشكيلية معتبرين أن الرسم والنحت والفن التشكيلي مخالف للشريعة الإسلامية.وفي شهر أكتوبر 2011،اقتحمت مجموعة من السلفيين بالقوة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في سوسة (140 كلم عن تونس العاصمة) على خلفية منع إحدى الطالبات المنقبات في وقت سابق من التسجيل بسبب رفضها إبراز وجهها والكشف عن هويتها.
وفي يوم الجمعة 14 أيلول (سبتمبر) 2012 جرت مواجهات عنيفة في محيط السفارة الأمريكية بتونس بين قوات الأمن ومتظاهرين ينتمي معظمهم إلى التيار السلفي العنيف، ما أوقع أربعة قتلى و49 جريحا، بحسب مصدر بوزارة الصحة التونسية، وجرت التظاهرات احتجاجا على فيلم مسيء للإسلام أنتج في الولايات المتحدة. وحطم المتظاهرون نوافذ مبنى السفارة الأمريكية في تونس وألقوا قنابل بنزين وحجارة على الشرطة من داخل السفارة وأضرموا النار في السفارة ومجمعها في استمرار الاحتجاجات ضد الولايات المتحدة، وتسلقوا جدران مبنى السفارة واقتحموها، قبل أن يستبدلوا العلم الأمريكي بعلم اسود كتب عليه لا اله إلا الله محمد رسول الله.
كما قام السلفيون الجهاديون في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2012 بعمليات حرق النُزل والحانات بمحافظة سيدي بوزيد (وسط البلاد) وتكسير المقاهي في محافظة جندوبة (شمال غربي البلاد) والاعتداء على روادها في شهر رمضان، بالإضافة إلى الاعتداء على تظاهرات ثقافية وسياسية ووسائل الإعلام.
ومنذ أن خرج السلفيون المرتبطون بتنظيم "القاعدة" من السجون التونسية، بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق، الذي أسهم في زجرهم بواسطة آلته القمعية الاستبدادية عبر تسليط قانون الإرهاب عليهم الذي عزلهم عن الشارع، أطلقوا العنان لملاحقة السيدات في الشوارع من أجل حملهن على ارتداء الحجاب أو النقاب، وأغاروا على مكتبات لتمزيق كتب وحجب أخرى، مع تهديد اصحابها بحرق المحلات إن لم يمتثلوا. كما غزوا المنتجعات على السواحل صيفاً لطرد النساء وفرض الجلباب على الجميع، وكانت آخر تظاهرة أقامها السلفيون في مدينة سوسة،أحد المنتجعات الرئيسية في البلد، لطرد السياح منها، ما سيدمر قطاعاً كان يُؤمن نحو خُمس إيرادات البلد من العملة الصعبة.
وفي هذا السياق من العرض للممارسات السلفية في تونس، في السنة الأولى من الثورة التونسية، قال الأستاذ محمد القوماني النائب الحالي لحركة النهضة عن محافظة باجة : "تابعت التحقيقات المبالغ فيها والتي تتحدث عن إمارة في سجنان وأخرى نفت وجود السلفيين بالمنطقة، لكن تصريحات رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان يدل أن هناك إشكالا سببه السلفيون ووجدوا هشاشة أمنية سيوسعون نشاطهم وقبل أن يسيطروا على مساحة معينة في سجنان سيطروا على عديد المساجد فأصبحوا يولون إماما ويخلعون آخر وألغوا تقاليد وممارسات في بعض المساجد وهذه مؤشرات بداية سيطرة ميدانية وتشدد ديني يجب أن يعالج بطريقة حكيمة".
ومن جانبه أكد الراحل شكري بلعيد الناطق الرسمي باسم حزب الوطنيين الديمقراطيين خلال لقاء مع إيلاف أنّ "تحركات ونشاطات التيار السلفي بسجنان وغيرها من المناطق تشكل خطرا على المجتمع ومدنية الدولة ونمطها والمسار الديمقراطي في تونس لأنها اعتداء على الحريات العامة والخاصة وخروج على القانون ومحاولة لفرض نمط مجتمعي بالقوة كما أنها تخلق إطار من الرعب الذي يسهل على قوى الثورة المضادة تمرير مشروعها الاستبدادي لذلك أرى أن التيار السلفي خطر في ذاته يضاف إلى التوجهات الاستبدادية لحركة النهضة".وفي حوار على إحدى القنوات التلفزية، نفى الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة خبر سيطرة سلفيين على سجنان و جعلها إمارة إسلامية قائلا: "إذا وجدت هذه الإمارة فماذا يفعل رشيد عمار رئيس أركان الجيش التونسي".
إقرأ أيضا: السلفية التكفيرية في تونس.. النشأة والطبيعة والمسار (1من4)
السلفية التكفيرية في تونس.. النشأة والطبيعة والمسار (1من4)
الميديولوجيا والخلفية الأنثروبولوجية.. قراءة معاصرة
قراءة تاريخية هادئة في "جذور الخوف بين الإسلام والغرب"