لم أندهش لعودة
التنسيق الأمني
بين السلطة
الفلسطينية وبين الكيان الصهيوني، ولكنني اندهشت لدهشة البعض من عودتها،
بعد أن صَعّد رئيس سلطة التنسيق الأمني المنتهية ولايته "
محمود عباس"، من
لغة خطابه مهددا ومتوعدا الصهاينة بإلغاء التنسيق الأمني بينهم، بل وإلغاء معاهدة أوسلو،
وسحب الاعتراف بدولة
إسرائيل، والعودة إلى المقاومة الشعبية للاحتلال.. إلى آخر هذه
الهرتلات، ولكن كما كان يصفه "نتنياهو" دائما، أنه يتسلق الشجرة ثم يضطر
إلى النزول، وها هو ينزل من فوق الشجرة، ولكن متى؟
نزل "محمود عباس" من فوق الشجرة، لنفس
السبب الذي دفعه لصعودها؛ لقد صعدها في أيار/ مايو الماضي، عندما أعلن "نتنياهو"
عن ضم الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، وها هو ينزل من فوقها بعد أن أعلن "نتنياهو"
عن بناء 1257 وحدة استيطانية (مغتصبة) في منطقة استراتيجية مهمة، قرب القدس الشرقية،
في خطة صهيونية جديدة، تستهدف عزل القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني، ليكتمل المشهد
بتهويد القدس الشرقية المحتلة بالكامل، ومنع إعلانها عاصمة لأي دولة فلسطينية مستقبلية.
ومن المعلوم بالضرورة أن قوات الأمن الفلسطينية
ستتولى حمايتها، ومغتصبيها (مستوطنيها) أسوة بالمغتصبات (المستوطنات) الأخرى!!
إنها تحديث لخطة الصهيوني "كوشنر"، الهادفة
إلى شرذمة الواقع الفلسطيني، وتفكيكه وبعثرته داخل الكيان الصهيوني، أي محو الوجود
الفلسطيني تماما. وتتعالى الأصوات من هنا وهناك بأن هذا القرار مخالف لقرارات مجلس
الأمن، وانتهاك للشرعية الدولية، وكأن "المؤسسات الأممية" أنصفت يوما الفلسطينيين،
منذ اغتصابها على مرأى ومسمع من العالم كله، ولا من منقذ ولا من مُجيب! بل كانت تلك
"المؤسسات الأممية" سببا في شرعنة الاحتلال، وضياع الحق الفلسطيني..
ولم تكن هذه هي المفارقة الوحيدة التي يختارها
"عباس" للنزول من فوق الشجرة، بل إنه اختار توقيت نزولها مع عيد الاستقلال
الفلسطيني أيضا. فمن المؤسف أن يعلن عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال، تزامنا
مع ذكرى إعلان "وثيقة استقلال دولة فلسطين" وعاصمتها القدس، ذلك الحدث التاريخي
المهم الذي أُعلن في الجزائر عام 1988، وشكل الأرضية الأساسية والاستراتيجية التي تم
عليها بناء مسيرة الدولة الفلسطينية، وتم بموجبه اعتراف العشرات من دول العالم بحق
الفلسطينيين في هذا الاستقلال؛ الذي لم يكن للأسف الشديد سوى حلم جميل لم يتحقق، بفضل
قادة حركة "فتح" التي أطلقت وثيقة الاستقلال من المجلس الوطني الفلسطيني،
بدءا من الراحل "ياسر عرفات" بتوقيعه على خديعة "أوسلو" التي أضاعت
ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وها هو "محمود عباس" ينهيه بعودة التنسيق
الأمني مع الكيان الصهيوني في نفس يوم الحلم الجميل ليقضي عليه تماما، ويبدله بكابوس
مخيف!
ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الذي كتب وثيقة الاستقلال،
هو الشاعر "محمود درويش"، ولذلك جاءت عباراتها ثورية حالمة، وعندما يُزخرف
الواقع الأليم بأحلام الشعراء، أجدني أنحاز كلية مع كل الحالمين بعودة فلسطين من "النهر
إلى البحر"، وهي ليست بالنسبة لنا مجرد رقعة جغرافية فحسب، بل هي تاريخ طويل ضارب
بجذوره في أعماق الأرض، منذ آلاف السنين، وتشهد تربتها على نضال شعب رواها بدمائه الطاهرة،
التي أهدرتها قادة "أوسلو" واحتسته نخبا لانتصار مزعوم!!
لقد أعلن متحدثو سلطة "أوسلو" أن إعادة
التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني يُعد انتصارا للقرار الوطني المستقل!!
ومن المفارقة أنهم كانوا بالأمس القريب يصرخون
من هوجة التطبيع التي اجتاحت بعض البلدان العربية، ويصفونها بطعنة في الظهر للشعب الفلسطيني
(وهي كذلك)، وأن فلسطين هي قضية الأمة العربية المركزية، واليوم يتفاخرون بهذا الاستقلال،
ويعيدون سفراءهم إلى الإمارات والبحرين، مهللين بهذا الانتصار التاريخي!
هذه المواقف المُشينة والمُذِلة لسلطة "أوسلو"
هي التي شجعت دولا عربية للهرولة إلى التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني، وسيجدون
المبرر لخيانتهم هذه أمام شعوبهم. فهم يرون بأم أعينهم كيف باعت هذه السلطة القضية
الفلسطينية بأبخس الأثمان. فالتنسيق الأمني أكثر خيانة من كل اتفاقيات التطبيع، والمكوث
والمبيت في بيت الطاعة الصهيوني لهو أكثر عارا ومذلة..
نعم فلسطين هي قضية الأمة العربية المركزية، أو
هكذا كانت، ولكن مَن قزّمها وجعلها قضية فلسطينية بحتة، بل وجعلها تحت سيطرة منظمة
التحرير بالتحديد، والتي تسيطر عليها حركة "فتح" وهي دون غيرها التي تقرر
مصيرها؟!
في البداية، كانت فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية
جمعاء، ثم جعلوها قضية عربية بحتة بعد إنشاء جامعة الدول العربية، ثم في هذه الجامعة
اختزلوها في منظمة التحرير الفلسطينية، وجعلوها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وهي
التي فرّطت في الحقوق الفلسطينية، وأضاعت تاريخ طويل من النضال والكفاح، وباعت دماء
الشهداء في سوق النخاسة في "أوسلو" من أجل سلطة وهمية، ما هي إلا فرع أمني
مُلحق بأجهزة الأمن الصهيونية، لتوفير الأمن والسلامة للشعب الصهيوني، وتحقيق الاستقرار
في كيان الاحتلال..
في حقيقة الأمر، أن التنسيق الأمني مع الاحتلال
لم يتوقف لحظة بعد صعود "محمود عباس" فوق الشجرة، فقد كانت مجرد مشهد في
مسرحية معروفة نهايتها مقدما، لامتصاص غضب الفلسطينيين جراء قرار الضم، والذي ما زال
جاريا حتى اليوم ولم يلغ كما ادعوا، بل كان قد تجمد لفترة بناء على طلب "ترامب"،
لتمرير عملية التطبيع مع بعض الدول العربية. فهذا التنسيق الأمني، هو سر وجود هذه السلطة
وضمان بقائها واستمرارها، لتلقي الأموال الملوثة بدماء الشهداء من العدو الصهيوني!
ولكي تنته هذه المسرحية، بالنهاية التي أرادها
"عباس"، فلا بد قبلها من مشهد للمصالحة الفلسطينية وعودة اللُحمة بين الفصائل
الفلسطينية المختلفة، والقبلات والذي منه، والإعلان عن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني
على أسس جديدة، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة. وصدقت حركة "حماس"
تلك الخطوة، واجتمعت بقيادات "فتح" في أنقرة، واتفقتا على إجراء الانتخابات
بعد ستة أشهر.
ولي مقال سابق في هذا الصدد، بعنوان "ألم
يحن الوقت لتمزيق اتفاقية أوسلو؟!" كتبت فيه: "لا يمكن للمرء أن يصدق حدوث
مصالحة بين نقيضين، كل يسير في طريق معاكس للآخر، وإن كان المرء يتمنى، بل ويرجو من
الله أن يغير الطرف المعاكس للتاريخ والجغرافية والدين، مساره ويلحق بالطرف الآخر،
هنا فقط تكون نقطة التلاقي، ومحطة اللقاء، وتكون المصالحة ممكنة وواجبة أيضا، بل فرض
عين على كليهما"..
ولكن الطرف الآخر لم يغير مساره، ولم يذهب إلى
محطة اللقاء، ومع ذلك وقعت "حماس" في فخ "عباس"، الذي لم يكن إلا
خدعة يريد منها ذلك المشهد الذي تناقله العالم، ليوفر له الشرعية الوطنية لتحسين وضعه
التفاوضي مع القادة الصهاينة والأمريكان، وبمجرد أن اختفي "ترامب" من الساحة
اختفت معه المصالحة، وطارت معها كل الوعود الكاذبة!!
لقد استخدم "حماس" وباقي فصائل المقاومة،
كفزاعة يخيفهم بها، كي يتمكن من النزول من فوق الشجرة!!
لقد نشرت بعض وسائل الإعلام عن اجتماعات سرية جرت
بين قيادات سلطة "أوسلو" والجانب الصهيوني، وتبادل رسائل جرت بين الطرفين،
شارك في إحداها رئيس أركان الجيش الصهيوني "أفيف كوخافي". وقد أشرف وزير
الدفاع "بيني غانتس" بنفسه على عملية التواصل مع الجانب الفلسطيني، وأنه
في يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر التقى مسؤول الشؤون المدنية "حسين الشيخ"،
مع الضابط "كميل أبو ركن"، وكان هذا اللقاء هو حُسن الختام بينهما، ليعلن
بعدها "شيخ أوسلو" عن عودة التنسيق الأمني والمدني مع الكيان الصهيوني، وعودة
الأوضاع لما كانت عليه قبل 19 أيار/ مايو!! "ويا دار ما دخلك شر"..
كانت تلك اللقاءات تُجرى سرا، من وراء الكواليس،
بينما تُعرض مسرحية المصالحة الفلسطينية، في ذات التوقيت، على خشبة المسرح ليشاهدها
العالم كله، وكان آخر فصولها اجتماع القاهرة في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر!!
هذا الخداع ليس مستغربا على سلطة "أوسلو"،
فهي قد ولدت من رحم الخديعة، ورضعت من ثدى الوضاعة، ولكن المستغرب هو موقف حماس، وباقي
الفصائل الفلسطينية التي رضيت بهذا الهوان وتلك الصفعة الصاعقة من السلطة!!
لقد كتبت في نهاية مقالي المذكور: "إذا كان
محمود عباس صادقا حقا في المصالحة مع "حماس"، من أجل لحمة الشعب الفلسطيني،
فعليه أن يمزق اتفاقية السلام، ويخلع معطف "أوسلو"، ويضع البندقية على كتفه،
ويرتدي الكوفية الفلسطينية، رمز العزة والكرامة، لرأب الصدع ولتعد اللحمة بين الشعب
الواحد وتنتهي حالة الانقسام، التي لم يجنوا منها غير الخسارة للقضية الفلسطينية، ليستطيعوا
أن يواجهوا التحديات الراهنة ويقفوا سدا منيعا ضد تنفيذ صفقة القرن.. فهل يستطيع؟!
إذا فعلها، وأغلب الظن لن يفعلها، سأرفع له القبعة، أنحني له ومعي كل أحرار العالم
تقديرا واحتراما"..
والحمد لله، لم يخيب "محمود عباس" ظني،
ووفر عليّ شراء القبعة، التي ادخرت ثمنها واشتريت به حجرا ألقمه به!!
twitter.com/amiraaboelfetou