لقد أشكل علينا فهم العالم بعد سقوط الاستقطاب الثنائي الرأسمالي ـ الشيوعي وبسط النظام العالمي الجديد وظهور فلسفات جديدة يتماهى فيها اليمين المتطرف كليا مع الليبرالية المتوحشة وتتحول المنظومات الصحية والتعليمية إلى منتج يقاس بمعايير الربح والخسارة. والإنسان فينا غريبا عنا. ولكن الأحداث الكبرى، السعيد منها والمؤلم، تمنحنا الفرصة لنعيد التأمل، عسانا نظفر بتصور جديد للعالم من حولنا ومكانة أفضل للإنساني فيه. وليس أكبر من جائحة كورونا التي جعلت فرائص العالم كله ترتعد، فيتخبط في مواجهتها.
وبعد أكثر من عشرة أشهر من ظهور هذه الجائحة آن للإنسان أن يتجاوز مرحلة الذهول في التعاطي معها إلى مرحلة التدبر والتفكير الرصين وقد عرّت ضعف الإنسان أمام الطبيعة. فيما ظل المختصون يؤكدون أن اكتشاف دواء مضاد لهذا الفيروس أو لقاح يحمي أجسادنا الضعيفة منه في الوقت القريب أمر بعيد المنال.
ضمن هذا الأفق المشبع بالقلق واليأس استدعت الإنسانية إستراتيجيتين متقابلتين من تاريخها في التعاطي مع هذا الأوبئة هما "الحجر الصحي الشامل" و"مناعة القطيع". وسنجعل من هذه الورقة مناسبة لإعادة التفكير في تصورات الإنسان لنفسه وللعالم من حوله وتقييم إستراتجيتيه في التعاطي مع الأزمة وربط صلتهما بتاريخ الأفكار السياسية عامة.
1 ـ كوفيد 19 إهانة رابعة تجرد الإنسان من أوهامه وتفضح نرجسيته
يمثل انتشار جائحة كورونا حدثا صادما مريعا تتفق التقديرات في أن تبعاته ستكون، على المدى البعيد، أكثر فداحة من الحربين العالميتين. فقد اجتاحت العالم بأسره وطالت الحياة في كل مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية. ومثلت مناسبة جديدة يكتشف فيها الإنسان، ذلك المخلوق المتعاظم، مدى ضآلته أمام الطبيعة وعجزه وقلة حيلته أمام جبروتها ومدى مبالغته في أحكامه حول نفسه وتقديره لمكانته وتقدّمه الحضاري والعلمي.
لقد وجد فرويد منذ نحو قرن أن الاكتشافات العلمية الكبرى قد أهانت نرجسية الإنسان وكشفت عمق أوهامه. فقد بيّنت نظرية مركزية الشمس التي أكدها نيكولا كوبرنيك أنّ الأرض ليست سوى عنصرا يقع على هامش الشمس ويدور حولها. وكشف تشارلس داروين ضمن نظريته التطورية في أثره "أصل الأنواع" أن الإنسان حيوان متطوّر فيما كشف سغموند فرويد نفسه أنّ "جوهر الإنسان" كائن في لاوعيه وأن الوعي ليس أكثر من خادم في رحابه.
بعد أكثر من عشرة أشهر من ظهور هذه الجائحة آن للإنسان أن يتجاوز مرحلة الذهول في التعاطي معها إلى مرحلة التدبر والتفكير الرصين وقد عرّت ضعف الإنسان أمام الطبيعة. فيما ظل المختصون يؤكدون أن اكتشاف دواء مضاد لهذا الفيروس أو لقاح يحمي أجسادنا الضعيفة منه في الوقت القريب أمر بعيد المنال.
ووفق المنطق الفرويدي نجد في انتشار الفيروس كوفيد 19 إهانة رابعة تلحق بالإنسان فتجعله يختفي في"جحره" جزعا. وتذكره مرة أخرى أنه ليس محور الوجود أو أهمّ من فيه. ويؤكد الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي في حواره مع الموقع الألماني"القنطرة للحوار مع العالم الإسلامي" هذه الإهانة من منظور طبي فيقول: "من زاوية المهنة، الإنسانية نسيت أنّ تاريخ البشرية كله مليء بالجوائح، وفي السابق كانت تلك الجوائح تسقط إمبراطوريات وتؤدي إلى تغيير نظم اجتماعية، لكن الذاكرة البشرية تنسى هذا. ففي 1380 تفشى الطاعون، وفي القرن 19 تفشت الكوليرا، وغالبية تلك الجوائح محيت من الذاكرة البشرية، وظهر وهم في الخمسينيات والستينيات بأن البشرية قضت على الأمراض الجرثومية، أما نحن الأطباء فكنا نعلم أن هذا غير صحيح. بل على العكس، كنا نتوقع ظهور جوائح خطيرة جدا، لأن الاستعمال المفرط للمضادات الحيوية كان يؤدي إلى تربية الجراثيم الفتاكة داخل المستشفيات نفسها. لذلك لم أتفاجأ بفيروس كورونا المستجدّ وسيمر ككل الجائحات الأخرى. على هذه الجائحة أن تعلمنا التواضع على أساس أن العالم ليس لنا فقط، فنحن نتقاسمه مع الشجر والنباتات ومع الجراثيم والفيروسات، فنحن كبشر مجرد جزء من هذه الطبيعة، ونحن لسنا أسياد العالم بل جزء منه".
أ ـ الحجر الصحي
1ـ في المفهوم وتاريخه
يتم في الحجر الصحي زمن الأوبئة عزل المرضى عن الأصحاء لمدة معينة حتى تتم محاصرة العدوى في منطقة بعينها أو يمارس على الوافدين من بلاد بعيدة حذر أن يجلبوا معهم الفيروسات المعدية ريثما يتم التأكد من سلامتهم. ويمتد لأربعين يوما عادة. ويطلق عليه "الكارونتينا". وتنقلب الوضعية في حالة الحجر الصحي الشامل. فتصبح عزلا للأصحاء لخفض فرص اختلاطهم بالمرضى كسرا لسلسلة العدوى وإبطاءً لوتيرة انتشارها. وفي الحجر الشامل ضرب من الحماية الطبيعية التي يتم اللجوء إليها عند استفحال الأوبئة وافتقاد الأدوية واللقاحات المناسبة.
وتشير المصادر المختلفة أن مصطلح "الحجر الصحي"استعمل أول مرة في النصف الأول من القرن الرابع عشر لمّا فتك الطاعون بالقارة الأوروبية. ورفعت الرايات الصفراء خاصة والسوداء أحيانا، على السفن وفي مداخل المدن علامات لانتشار الوباء فيها. أما مصطلح الحجر الصحي الذاتي أو العزل الطوعي فظهر عام 1665 في قرية إيام في إنجلترا، بعد أن ظهر بها الطاعون بغاية منع انتقال العدوى إلى باقي البلاد.
يمثل انتشار جائحة كورونا حدثا صادما مريعا تتفق التقديرات في أن تبعاته ستكون، على المدى البعيد، أكثر فداحة من الحربين العالميتين. فقد اجتاحت العالم بأسره وطالت الحياة في كل مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية.
وبظهور الكوفيد 19 استعمل اصطلاح التباعد الاجتماعي ويفيد تجنب المخالطة اللصيقة وحضور الفعاليات والتجمعات الكبيرة بهدف تحقيق الحماية الطبيعية. أما إجراؤه للتوقي والحماية فقديم جدا، إذ تردّ بعض المصادر ظهوره إلى الصين منذ 36 قرنا خلت. وفي التوراة إشارة إلى اعتماده منذ 25 قرنا أو أكثر. وقد عرفه العرب ويتضح ذلك في الحديث النبوي. فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ قَالَ: إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا.
لم يكن هذا الإجراء سلسا كما الحال اليوم. فقد اشتمل غالبا على قدر كبير من القسوة فشمل الإبعاد والعزل والنبذ. ومما يؤكد الوثائق أن السلطات الفرنسية كانت تفرض على المصاب بالجدري مثلا أن يحمل جرسا بيده وأن يحركه باستمرار ليعلن بذلك عن إصابته ليبتعد عنه المارة. وقد يصل الأمر إلى حرق الموبوء حيا لاعتقاد بأن الجسد المريض نجس أو أن لعنة إلهية لحقت به أو أن سحرا أصابه.
2 ـ خيار الحجر الصحي: الدواء بالتي كانت هي الداء
كانت الصين أول من اتخذ قرار الحجر الصحي لمواجهة فيروس كورونا في مدينة ووهان مركز مقاطعة هوباي ونفذته بكل صرامة. وراج انطباع عام بأنه كان ناجعا، فقد خوّل لها بأن تحاصر هذا الوباء وأن تتغلب عليه، ولكن لا أحد يعلم بأي ثمن تمّ ذلك في غياب الأرقام الدقيقة والشفافة. ثم تبعتها إيطاليا وإسبانيا ولحقت بهما بلدان كثيرة بعدئذ. ولكن أثبتت النتائج على مستوى العالم أنّ هذا الخيار لم يكن مجديا. وأثار جدلا كثيرا. فقد رأى فيه بعض الحقوقيين اعتداء على الحريات الفردية وتقييدا لها. وحذّر الأخصائيون النفسيون من آثاره الوخيمة. فالعزل عن المحيط والأهل مصدر للقلق والتوتر والانفعال ومبعث على وجوه مختلفة من الإدمان ومسبب لافتقاد نسق الحياة اليومية العادية.
كان الجدل في الأوساط البحثية والطبية الأكثر وقعا. فقد نبه الباحثون إلى أن لقاح فيروس كورونا المستجد لن يكون متاحاً قبل سنة على أقل تقدير ويستغرق تعميمه على أنحاء المعمورة عاما آخر وأموالا طائلة. فسلوك هذا الفيروس مجهول لدى الباحثين. وكيفية حصول العدوى غير معروفة بدقة. وكل ما يروج أقرب إلى الفرضيات منه إلى الحقائق العلمية المثبتة. ولئن قدّر السياسيون تواريخ محددة لاكتشاف اللقاح أو انتهاء الجائحة فإن المختصين يفندون مزاعمهم، خاصة أن عدواه تتتابع في شكل موجات متلاحقة.
وفي حوار الدكتور المنصف المرزوقي المذكور أعلاه الجامع شيء من هذه الحقيقة. يقول: "فيما يخص اللقاح، أعتقد أن هنالك نوعا من الكذب والتدجيل على الشعوب بخصوصه، على أساس أن تصنيعه سيكون قريبا وسهلا، وأنا هنا أحدثك كرجل اختصاص، فأنا أعلم أنّه لا وجود للقاح قريب وبهذه السهولة. أذكرك أن اللقاح ضد "الأيدز" إلى الآن لم نجده، ونحن نبحث عن لقاح ضدّ حمى الملاريا، ولم نجده. حتى إن وجد لقاح سريع لفيروس كورونا المستجدّ، فكيف سنتأكد أنه لقاح جدي وليس له مضاعفات على المدى الطويل، لذلك، أنا أحذر من قصة وجود لقاح سيحل المشكل، فالأمر سيتطلب وقتا".
3 ـ الحجر الصحي الشامل: عودة الروح للتصورات الاشتراكية
لم ينتبه كثيرون إلى إجراء الحجر الشامل على مقاطعة هوباي، فيد الدولة في الصين طولى، و"هي أدرى بالتعامل مع شعبها" ومع "هذا الوباء الصيني" على عبارة دونالد ترامب. ولكن الصدمة كانت عظيمة فعلا لما أغلقت إيطاليا وإسبانيا وفرنسا كل المرافق تقريبا وأجبرت الناس على البقاء بالمنازل ثم تبعتها دول أخرى كثيرة، وسُخر القطاع الخاص من قبل الدولة، أحيانا، في إطار حشد الجهود. وتم التعاطي مع الجائحة من منطلق أقرب إلى الفلسفة الاشتراكية. فقد تولت الدولة دفع رواتب العمال المعطلين وقدمت المساعدات إلى المحتاجين ومعدومي الدخل. ومثلت هذه الإجراءات سياسات عامة تشمل أكبر عدد ممكن من مجموع المواطنين. ولكن قدرات الدول لم تكن متماثلة أولا. فما تستطيعه فرنسا أو قطر مثلا لا تقدر عليه تونس أو المغرب أو موريتانيا مثلا.
وللإجراءات عامة دائما استثناءات تشذّ عن المنظومة وتبقى خارجها معرضة إلى هذه الجائحة وإلى تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية. ولعل تونس ذات الاقتصاد العليل نتيجة لصعوبات في التحول الديمقراطي أن تكون خير مثال لقصور هذه المعالجة. فقد أخذت الموجة الثانية من جائحة كورونا تضرب بقوة هذه الأيام ولا تزال الأرقام في تصاعد مخيف. وأضحت القناعة راسخة بأن نتائج الحجر الصحي قد تآكلت ولم يبق منها غير التبعات الاقتصادية الثقيلة. فقد بينت دراسة أجراها المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي أن 57% من التونسيين اضطروا للتوقف عن العمل طيلة فترة الحجر الصحي الشامل وأنّ 28% فقط من النسبة المذكورة عاودت نشاطها في نهاية شهر نيسان (أبريل).
ورغم تعهدات الدولة وبعض المؤجرين لم يتحصل 60% من الأجراء الذين توقفوا عن العمل على أجورهم وهم أساسا من المنتمين إلى الشريحة الأكثر فقرًا. وتراجعت الأطعمة كمًّا وكيفا طيلة فترة الحجر لدى ثلث الشريحة الأكثر فقرًا وعجز ثلثا المواطنين عن الحصول على أغذية ضرورية لنفاذ المخزون أو بفعل المضاربة. ولا تزال تبعاته تؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين وعلى ارتفاع نسبة البطالة خاصة بعد تضرّر قطاع السياحة بعمق وسريان تقديرات من البنك الدولي بانكماش الاقتصاد التونسي خلال هذه السنة بنحو 7%. وبديهي أن المواطن من ستحمل كافة الأعباء بالنهاية.
وليست هذه الحصيلة الثقيلة حكرا على تونس. فخسائر الاقتصاد العالمي بسبب هذه الجائحة تقدر حتى تاريخ كتابة هذه المقالة بـ 28 تريليون دولار ويناهز عدد العمال المسرحين مائتي مليون عامل. والتخبط الذي وقعت فيه الحكومة التونسية ظهر في مختلف أنحاء العالم تقريبا. وليس أدل على ذلك تراجع مختلف الحكومات عن سياسة العزل الشامل ومسارعتها بفتح الحدود وإعادة الحياة الاجتماعية إلى نسقها العادي تقريبا.
4 ـ الحجر الصحي الشامل بين الأخلاق واللا أخلاق
يتيح لنا تعاطي المجموعة الإنسانية مع فيروس كورونا أن نختبر تصوراتنا وأن نعيد ضبطها في ضوء ما استجدّ من الحقائق. وأهم ما يوضع على المحكّ العلاقة بين الفردي والجماعي. فالتصورات الاشتراكية التي تبنتها أغلب الدول، بما في ذلك التي تحكمها أحزاب يمينية ليبرالية، تعاطت مع الوباء باعتبار الإنسان كتلة صماء متراصة. ففكرت في مصلحة المجموعة وحاولت إنقاذ أكبر عدد ممكن من تبعات هذه الجائحة. ورغم نبل المقاصد وتكلفة الإجراء اقتصاديا، أهملت هذه الدول البعد الفردي وتناست الحالات التي تخرج عن القاعدة.
فرضت إجراءات الحجر الصحّي الشامل فرضا نتيجة لضغط فئات اجتماعية أنانية تعرف أنها تمتلك من الوسائل ما يساعدها لتصمد دون دخل مالي لفترة طويلة أو لانتمائها للقطاع العام المتخاذل بطبعه الضامن لتسديد الدولة لأجوره.
وتعلمنا الإحصائيات والتجارب أنّ القانون الشامل يصاغ دائما وفق الظواهر الأكثر شمولا والأكثر ظهورا للعيان فتضبط مقاييسه وفقها. وهذا يضير دائما بالحالات التي تشذّ عنه. فقد فرضت إجراءات الحجر الصحّي الشامل فرضا نتيجة لضغط فئات اجتماعية أنانية تعرف أنها تمتلك من الوسائل ما يساعدها لتصمد دون دخل مالي لفترة طويلة أو لانتمائها للقطاع العام المتخاذل بطبعه الضامن لتسديد الدولة لأجوره.
حاولت الدول أن تقوم بواجبها فأخرت تسديد أقساط القروض ومنحت المساعدات الاجتماعية والهبات. ولكن المبالغ في الدول النامية خاصّة، كانت زهيدة وإجراءات استلامها كانت بطيئة بسبب إدارة بيروقراطية عامة وشبه معطلة أيام الحجر. ولم تأبه بأصحاب المهن الهامشية ممن لا وثائق لهم تثبت تعاطيهم لعمل حتى يتم التعويض لهم، ولا بمن لا مورد لهم غير ما يجنونه في يوم عملهم، أو من هو ملتزم بدخل يومي أو شهري لسداد ما عليه من ديون أو التزامات ماليّة. ولم تضع في اعتبارها مصلحة من لا يقدرون على الصمود طويلا في ظل الحجر وانعدام الموارد. ونسيت أنّ هذه الجائحة قد لا تقتلهم إذا ما مستهم. أما البطون الجائعة فلا أمل لها في الحياة بدون طعام. وهل يستتب أمن أو يتحقق استقرار اجتماعي في ظل موت يخيّم على الشرفات أو دعوات تمييزية أنانية؟
*أستاذ جامعي تونسي