يخلط بعض القانونيين بين عقوبة الإعدام التي تنص عليها القوانين الجنائية الوضعية وبين شريعة القصاص التي سنتها الشريعة الإسلامية، وقد جاراهم في ذلك لفيف من الباحثين المسلمين الذين يستخدم بعضهم مصطلح "الإعدام" مرادفا للقصاص، وهذه مغالطة كبرى بل فرية كبرى لا تقف تداعياتها عند الخلط الاصطلاحي بل تتعداها إلى مجاراة بعض منظمات المجتمع الدولي وحقوق الإنسان- عن قصد أو عن غير قصد- في اتهامها الشريعة الإسلامية بمخالفة أحكام العهد الدولي لحقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في الحياة. إن الإعدام عقوبة قديمة، طبقتها الإمبراطوريات القديمة، واتسمت في غالبها بأنها أقصر الطرق للتخلص من المعارضين والخارجين على طاعة هذه الإمبراطوريات، ثم انتقلت هذه العقوبة إلى القوانين الوضعية المعاصرة بإضفاء مسحة عصرية عليها، فصار الإعدام عقوبة مطبقة في المجتمع الدولي ما قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها واستمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي لتصفية الجواسيس والعناصر الموالية لروسيا من قبل أمريكا ومن يسير في فلكها، ولتصفية الجواسيس والعناصر الموالية لأمريكا والغرب من قبل روسيا ومن يسير في فلكها، ولكن بانتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي، طفقت أمريكا وحلفاؤها في بناء ما سموه "الدولة الديمقراطية" التي من خصائصها -كما يزعمون- أنسنة المنظومة القانونية الدولية وكانت البداية بوقف تطبيق عقوبة الإعدام إلا في حالة الجرائم المغلظة.
إن الخلط بين عقوبة الإعدام وشريعة القصاص ينم عن جهل بأحكام الفقه الجنائي الإسلامي وبمفرداته وتطبيقاته، فالقصاص كما جاء في مقال بجريدة “الغد” الأردنية لهشام غرايبة بعنوان: (عقوبة الإعدام في الإسلام ) هو: “استيفاء لحق المتضرر من مرتكب الجرم بمثل الفعل الذي قام به، فالقاتل المتعمد والذي قام بذلك عن ترصد وإصرار بقصد إزهاق النفس التي خلقها الله وقدر لها حياتها ورزقها ومماتها، فهذا اعتداء على حق شخص بالحياة والتنعم بأنعم الله عليه، وبتر لعمل قد يكون في طاعة الله لينال رضاه والجنة، وعلى اختصاص الله الذي جعل الحياة والموت بيده فقط، وهذا الاعتداء جسيم، سواء كان دافع القتل اعتداء أو انتقاما، أو كان القتل بقصد الإفساد في الأرض كالسطو المسلح أو قصف المدنيين العشوائي أو التفجيرات العمياء، وفي الحالتين يحكم القاضي على الجاني الذي ثبت جرمه بالموت اقتصاصا، إلا إذا عفا ولي المقتول، وهذه هي العقوبة الوحيدة بالإعدام في الإسلام”.
بالرغم من أن هشام غرايبة لم يشذ عن القاعدة في مجاراة كثير من الباحثين في استخدام مصطلح الإعدام في سياق تعريفه لشريعة القصاص إلا أنه أماط اللثام عن طبيعة القصاص في الشريعة الإسلامية التي تميزه من أحكام الإعدام المقررة في النصوص والتشريعات الوضعية، فالقصد من القصاص في الإسلام هو استيفاء حق المتضرر وهو عقاب إلهي للمعتدي على حياة الغير ولا يجوز في حالة توفر أركان الجريمة تعطيله أو تأجيله أو تخفيفه أو استبداله لدواع إنسانية لأن حرمة النفس الإنسانية مقدسة في الإسلام ويحرم إزهاقها ومن تعمد إزهاقها نال جزاءه وهذا على خلاف المبررات التي تتذرع بها بعض المنظمات القانونية والحقوقية لإسقاط عقوبة الإعدام أو تخفيفها أو استبدالها بعقوبة أخرى أقل ردعا والتي لا تراعي المعنى الشامل لحق الحياة.
هناك آية جامعة في القصاص تحمل مقاصد جمة لا يفقهها كثير من الذين ينتقدون الفقه الجنائي الإسلامي، يقول الله تعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”. لمحمد الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير” تفسير رائع لهذه الآية، حيث يقول: “تذييل لهذه الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص، فبين أن في القصاص حياة، والتنكير في (حياة) للتعظيم بقرينة المقام؛ أي: في القصاص حياة لكم؛ أي: لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس، لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت، لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات.. ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين، وليس الترغيب في أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص، لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلا نادرا، وكفى بهذا في الازدجار” .
بناء على ما سبق أؤكد مرة أخرى ويشاطرني في ذلك العارفون بمقاصد الشريعة الإسلامية بأن القصد من شريعة القصاص في الإسلام هو استيفاء حق المتضرر، فليس للقاتل المتعمد في الإسلام إلا القتل، وقد كان القصاص ركنا أساسيا من أركان الشريعة الموسوية، يقول الله تعالى: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون”. لقد شرع الإسلام القصاص لاستيفاء الضرر وليس للانتقام وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: “ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا”.
من المفتريات التي تذيعها بعض الجهات المعادية للإسلام نسبة حالات الإعدام التي ينفذها ما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية ” إلى الإسلام مع أن القاصي والداني يعلم بأن هذا التنظيم الذي يدعي وصلا بالإسلام يتبع أجندة أيديولوجية وفكرية بعيدة كل البعد عن الإسلام، فالإسلام لا يقر حالات الإعدام الفردية والجماعية التي ينفذها هذا التنظيم الذي يتعامل مع الكيانات الأخرى حتى الإسلامية غير الموالية له بأنها كيانات مستباحة يجب قطع شأفتها واقتلاعها عن بكرة أبيها. إن هذه الصورة الداعشية ليست من الإسلام الذي ينص قرآنه على حماية حق الحياة: “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”. إن الحق المستثنى في هذه الحالة والذي يتذرع به بعض المغالين ليس متروكا البت فيه لتأويلات وتوهمات كل من هبّ ودبّ بل هو من اختصاص العلماء والفقهاء.
و الآن، وصلت إلى بيت القصيد وهو السؤال الذي لا مفر منه: لماذا تصر المنظمات الحقوقية الدولية على معارضة تطبيق عقوبة الإعدام؟. لهذا الرفض أسباب كثيرة أهمها أن هذه المنظمات تتذرع لتبرير هذا الرفض بكون عقوبة الإعدام اعتداء على حق إنساني مقدس وهو الحق في الحياة، وهذا الإطلاق فيه مغالطة كبيرة لأن الحق في الحياة محفوظ لكل أحد طالما لم يحصل من هذا الأخير اعتداء على حياة الآخرين فإن وقع منه هذا نال من العقوبة ما يستحق فالاعتداء على حق الحياة ليس له عقاب إلا الحرمان من الحياة قصاصا وهو عين ما تقرره الشريعة الإسلامية، وهناك سبب آخر يفسر إصرار المنظمات الحقوقية الدولية على معارضة تطبيق عقوبة الإعدام وهو أن هذه المنظمات تستهدف من وراء ذلك الشرائع الدينية التي لا تشكل منطلقا أساسيا ولا فرعيا في صياغة حقوق الإنسان والحقوق الدولية بصفة عامة، وبالتالي فموقف هذه المنظمات المعارض لتطبيق عقوبة الإعدام إنما هو تعبير عن رفضهم لأي دور للتشريعات الدينية في صياغة هذه الحقوق.
(عن صحيفة الشروق الجزائرية)