دول تصنع الحياة وتشيع السلام بالتفاهم والحوار والاستناد للعقل، كما في
حالة الإمارات و"إسرائيل"، وأخرى تصنع الحروب والصراعات، استنادا للكراهية وباستخدام العصابات والاستناد للأكاذيب والخرافة، كما في حالة تركيا وقطر وإيران. وهكذا، بحسب الإعلام
الإماراتي، تنقسم المنطقة بين محورين، محور يصنع الحياة في طليعته "
إسرائيل" وتندرج فيه الإمارات ومصر والسعودية، وآخر يصنع الموت، فيه خصوم المحور الأوّل كلّهم، أو على الأقل هكذا صوّر المشهد الإقليمي نديم قطيش، رجل محور الحياة الإسرائيلي، في برنامجه "الليلة مع نديم"، الذي تبثه قناة "سكاي نيوز عربية" الإماراتية، حتّى تنقيب تركيا عن النفط في شرق المتوسط صار صناعة للموت، طالما أنّ تركيا
باتت العدوّ المُقدّم عند محور "صناعة الحياة"!
لا يقول قطيش شيئا استثنائيّا يكفي لأن يتجه الخطاب إلى شخصه، فلا حاجة للوقوف عند أداة، تسترجع الخطاب المشترك بين مختلف أدوات "محور الحياة" الإسرائيلي، ابتداء من أفيخاي أدرعي، مرورا بالذباب الإلكتروني الذي تحفّه شخصيات معروفة في فضاءات المحور إيّاه، المظلمة والمسمومة، وانتهاء بالأمراء الكبار. وفي زحمة الأدوات هذه لا معنى للوقوف عند أداة منها، طالما أن المضمون والمنهج واحد بينها.
لا يمكن، من هذا الخطاب، إلا الخروج بخلاصة واحدة، وهي أنّ الحياة عند أعضاء المحور العربي لا تعني إلا "إسرائيل". كلّ شيء غير "إسرائيل" اختناق وموت، أو كلّ وجود بعيدا عن "إسرائيل" هو الموت ذاته. ولعلّ هذه الخلاصة تفسر اندلاق العشق المحموم الذي يظهره الشقّ العربي في المحور الإسرائيلي، بعد توقيع
اتفاقيات التطبيع الأخيرة. فمظاهر العشق المرضي تندّ عن الإحصاء، لكثرتها وشذوذها وغرابتها، وتقابلها كراهية مصطنعة تستهدف تشويه الفلسطيني ونبذه، تضيق بمسلسل تلفزيوني يعرّي دعاية الانحياز لـ"إسرائيل"، وأكذوبة الترويج لها بصفتها "الحياة"، وتختنق بأغانٍ تمجّد الفلسطيني أو تذكّر بمأساته. وبكلمة أخرى، الحياة أن تكون صهيونيّا من الدرجة الثانية في المرتبة، والأولى في محاولة إثبات الولاء!
هذه الخلاصة ليست افتراء، بل هي المفهوم من كلام الإعلامي المذكور، فضلا عن كونها منطوق زملائه في فرق الدعاية من الذباب إلى ما يعلوهم درجة. فإذا كان المعيار هو الاتفاقات والحوار والتفاهم، والمشاريع الاقتصادية المشتركة، فإنّ تركيا وقطر، على الأقلّ، لا ينقصهما شيء من ذلك، وإذا كان المعيار الصراعات والحروب التي تنخرط فيها الدول، فإنّ "محور الحياة" لا ينقصه شيء من ذلك، ابتداء من الحرب الإسرائيلية المفتوحة ضدّ الفلسطينيين، وليس انتهاء بالحرب الإماراتية السعودية على اليمن، والدعم المصري الإماراتي لأحد طرفي الصراع في ليبيا، ودخول السعودية الكثيف لمرحلة طويلة على خطّ الجماعات المقاتلة في سوريا، والتي للمفارقة كان يدعمها الإعلامي المذكور، وبالتأكيد ليس انتهاء بحصار قطر، ولا بالتدخل في صراعات عدّة في المنطقة، كالاصطفاف العملي والإعلامي، الإماراتي السعودي، ضدّ تركيا في ملفات لا يفترض أنّها تعني لهما شيئا، كما هو الحال بمؤازرة اليونان وأرمينيا، وصولا إلي درجة من الهوس والجنون بدعم كل خطاب شعبوي عنصري متطرف في العالم يعادي الإسلام والمسلمين!
فإذا كانت الصراعات التي تتوّرط فيها دول "محور الحياة" الإسرائيلي لا تقلّ عن، بل تزيد على، تلك التي يتورّط فيها خصومها، وإذا كان خصومها لا يقلّون عنها، بل قد يزيدون، إنتاجا وإبراما لاتفاقات التفاهم والحوار والتعاون، فبأيّ شيء صار المحور الإسرائيلي بعضوية مصر والإمارات محورا للحياة، وما يقابله محورا للموت؟ الفارق الوحيد في الصورة، هو "إسرائيل"، وليس مجرد الحضور الإسرائيلي، بل أن تكون مغرما بها، ومخلصا لها، حدّ الفناء فيها!
بالتأكيد، أغفل الإعلامي المذكور، الصورة كاملة، فعرض لـ"الحياة" المنبثقة عن اتفاقات
التطبيع، طامسا تماما الصراعات والحروب التي تتوّرط فيها دول التطبيع، بينما قَصَرَ سلوك خصومها على الحروب والصراعات، ليكون عنوان الخطاب الإعلامي لـ"محور الحياة" الإسرائيلي، الأكاذيب المكشوفة واستغفال الناس، فلا يكتفي بإهانة عقله، إذ لا يمكنه إنتاج خطاب معقول لإعاقات ذاتيّة في الأخلاق والتوجه السياسي، بل يتجاوز ذلك إلى إهانة كلّ عاقل، فيفترض أن مقارنات مترعة بالطمس والحذف يمكن أن تمرّ على أحد من خلق الله، والحقيقة أنّهم "وَما يَخدَعونَ إِلّا أَنفُسَهُم وَما يَشعُرونَ".
وهكذا بكلّ وقاحة تستهين بعقول الخلق، تقول الدعاية الإسرائيلية، بلسان عربيّ، إنّ المحور الإسرائيلي يبحث عن الإنسان، بينما خصومه حوّلوا أنفسهم إلى مصانع جنازات، وبما أنّنا في غنى عن التذكير بأنّ طليعة المحور "إسرائيل" تأسست على نفي الإنسان، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، واستمرت على ذات السياسة المدججة بالقتل، والنفي المادي والسياسي.. فلنتوقف قليلا عند الآلاف الذين استباحهم السيسي في الشوارع على مرأى العالم، وعند التقارير المتكاثرة عن الظروف دون البهيمية التي يوفّرها للبشر في سجونه التي صارت حقيقة خالصة من المجاز؛ مصانع للموت، مع حرمان الموتى من الجنازات، فضلا عن تفريطه في حقوق مصر الاقتصادية والجغرافية، ممّا يمسّ مستقبل الإنسان المصري في ما هو أهمّ من رفاهيته، في أمنه وغذائه. ولن تكون هذه الوقفة أحسن حالا مع آلاف اليمنيين من ضحايا الحرب السعودية الإماراتية، ولا الليبيين الذي يُدفنون في مقابر حفتر الجماعية بدعم إماراتي مصري، وعلى الأقلّ، فإنّ تقطيع المواطنين بالمناشير في قنصليات بلادهم ما يزال ماركة مسجلة لـ"محور الحياة" الذي يخدمه الإعلامي المذكور!
لا يبقى من الحياة، والحال هذه، إلا أن تكون الحياة هي "إسرائيل"، بعد ذلك يمكنك أن تتوقّع الكثير ممّا هو شاذّ في الأصل، وأن تفسّر الكثير مما يستعصي فهمه، فـ"إسرائيل" نفسها، وقد باتت معنى وجودهم، تفتقر إلى كلّ ما هو طبيعي في أصل وجودها واستمرارها.
twitter.com/sariorabi