مع انطلاق مُفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، تتجه الأنظار إلى ما ستؤول إليه من نتائج، علمًا بأنّ هذه المُفاوضات التي تتمّ حاليًا في مقرّ قوّات "اليونيفيل" في الناقورة، برعاية الأمم المُتحدة وبحُضور مُساعد وزير الخارجيّة الأميركي دايفيد شينكر والسفير الأميركي جون ديروشر، كانت انطلقت منذ سنوات طويلة وتوقّفت في أكثر من مناسبة. فهل هذه المرّة ستكون النتائج أفضل؟.
لا شكّ أنّ مرحلة التوصّل إلى إتفاق إطار إستغرقت الكثير من الوقت، واليوم المُهمّة أصعب وتتمثّل بتحويل إتفاق الإطار المَذكور، إلى إتفاق ترسيم حدودي رسميوكامل المُواصفات، وذلك في البحر وفي البرّ. لكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ المسألة لا بُد وأن تستغرق سنوات إضافيّة، حيث يُمكن إنهاء الملفّ من الناحية التقنيّة خلال ستّة أشهر-بحسب الخُبراء، إلا في حال تعمّدت إسرائيل العَرقلة. والمسألة ترتبط أيضًا بحجم الضُغوط التي ستُمارسها الولايات المتحدة الأميركيّة التي تلعب نظريًا دور الوسيط.
إشارة إلى أنّ أهداف لبنان من هذه المُفاوضات تتمثّل في حفظ حُقوقه في أراضيه في البرّ، وفي حفظ حُقوقه في مياهه الإقليميّة في البحر أيضًا، برعاية دوليّة وبتوثيق من جانب الأمم المتحدة. ويريد لبنان كذلك الأمر تحضير الأرضيّة السياسيّة والأمنيّة والدَوليّة المُناسبة لإطلاق أعمال التنقيب عن النفط والغاز في البلوكات الجنوبيّة، لا سيّما تلك الحدوديّة الواعدة بالموارد النفطيّة-بحسب التقديرات.في المُقابل، تريد إسرائيل بدء إستخراج النفط والغاز في البقع القريبة من لبنان بشكل آمن، وُصولاً إلى التوصّل إلى هدنة امنيّة ثابتة قد تُمهّد الطريق برأييا للتطبيع في المُستقبل.
وليس بسرّ أنّ الولايات المُتحدة الأميركيّة تضغط بدورها لتحقيق نتائج سريعة-ولوّ شكليّة في المرحلة الراهنة، وذلك لتوظيفها في معركة الإنتخابات الرئاسيّة، وتحديدًا في سعيهالكسب أصوات اللوبي اليهودي، حيث أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تُسوّق أنّها تمكّنت من فكّ العزلة السابقة عن إسرائيل من جانب الدُول العربيّة، وهي تواصل هذا المسار بشكل تدريجي لتوسيع لائحة الدُول التي ستنضمّ إلى خيار التطبيع، علمًا أنّ لبنان يؤكّد بشكل حاسم أنّه يرفض أيّ شكل من أشكال التطبيع. وقد رفض رفع مُستوى التمثيل في ما خصّ الوفد المُفاوض، ورفض ضمّ مسؤولين سياسيّين ودبلوماسيّين، وذلك للحفاظ على الجانب التقنيّ من المفاوضات.
لكن وبعيدًا عن النيّات والأهداف، تُواجه هذه المُفاوضات جملة من المشاكل، منها ما هو تقني بحت، ومنها ما هو بخلفيّات سياسيّة وأمنيّة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: يُشدّد لبنان على ضرورة حلّ الخلافات الحدوديّة المُوزّعة على 13 موقعًا بريًا، مع إستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا حيث تتداخل الحدود بين كل من لبنان وسوريا وإسرائيل، وبالتالي إنّ تسويقها مُرتبط بتنفيذ القرارين الدَوليّين 242 و338، إضافة إلى أنّ ترسيم الحدود مع سوريا مُؤجّل.
ثانيًا: يصرّ لبنان على الإنطلاق في ترسيم الحدود البحريّة من الحدود البريّة، وتحديدًا من رأس الناقورة بدلاً من النقطة المُسمّاة B1، بشكل يمنح لبنان مساحة بحريّة تبلغ نحو 1350 كيلومترًا مربّعًا، بدلاً من 860 كيلومترًا مربّعًا فقط، وهي المساحة المُمتدة بين ما يُسمّى النقطة 1 التابعة للخط الإسرائيلي للحدود والنقطة 23 التابعة للخط اللبناني لهذه الحدود. تذكير أنّ الموفد الأميركي السابق فريديريك هوف، كان منح لبنان 468 كلم. مربّع شمال خط هوف، و392 كلم. مربّع جنوبه، وإسرائيل تُجادل حتى على مُلكيّة هذه المساحة.
ثالثًا:يُطالب لبنان بمُعالجة ما يصفه بعض الخبراء خطأ إرتكب في السنوات الماضية، على مُستوى ترسيم الحدود، بشكل سمح لإسرائيل بالبناء عليه والإنطلاق منه لترسيم حدودها البحريّة مع قبرص، بشكل قضم الكثير من حقوق لبنان في مياهه الإقليميّة. يُذكر أنّ من شأن مُعالجة هذا الخطأ أن يزيد المساحة البحريّة العائدة إلى لبنان، علمًا أن إسرائيل كانت سارعت في الماضي القريب إلى ترسيم حدودها البحريّة مع قبرص، لقطع الطريق على لبنان لمُعالجة هذه الثغرة.
رابعًا: يرفض لبنان أيّ مُحاولة إسرائيليّة لأخذ مفاوضات الترسيم إلى مفاوضات تطبيع، وأيّ إيحاء بذلك ولوّ عبر صورة تذكاريّة، الأمر الذي شدّد عليه رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون خلال لقائه أعضاء الوفد اللبناني أمس. كما يرفض لبنان تقديم أي ضمانات أمنيّة يمكن أن تُفسّر كإتفاق هدنة، طالما أنّ الأرض اللبنانيّة لا تزال مُحتلة، ناهيك عن الأراضي العربيّة.
في الخُلاصة، من المُتوقّع أن تستمرّ المُفاوضات أشهرًا عدّة، على أن تُقسّم بطبيعة الحال إلى جولات تفاوضيّة مُتقطّعة سيستضيفها مقرّ قيادة قوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب اللبناني، في الناقورة. وبالتالي، لا يُمكن البناء كثيرًا على نتائج الجولة الأولى التي إنطلقت اليوم من مقرّ قيادة قوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب اللبناني، حيث يجب إنتظار أكثر من جولة، مع ما سيتخلّل ذلك من محطات محليّة وإقليميّة ودَوليّة تؤثّر حتمًا على مسار التفاوض ككلّ.