بينما كان كبلر يجري أبحاثه الفلكية، سمع
غاليليه (1564- 1642) عن جهاز هولندي يقرب الأجسام البعيدة، فترك أبحاثه الجانبية وركز على صناعة تلسكوب خاص به وجد النور عام 1609.
بدأ غاليليه مراقبة الكواكب، فوجد أن سطح القمر مشابها للأرض من حيث احتوائه على جبال ووديان ومحيطات، ثم اكتشف أربعة أقمار تدور حول المشتري، في ما وجد أن لزحل شكل غريب، ووجد أن كوكب الزهرة لديه أطوار مثل القمر.
وكان الاكتشاف الأخير الأكثر أهمية، لأنه استطاع من خلاله تفنيد نظرية بطليموس التي تزعم أن كوكب الزهرة يكون هلالا أحيانا ومكتملا أحيانا أخرى، ما يعين أن هذا الكوكب يقع أحيانا بين
الأرض والشمس وأحيانا أخرى على الجانب البعيد من الشمس، وهذا دليل على أنه يدور حول الشمس.
ثم أدخل تعديلات على تلسكوبه ما جعله يكبر الأشياء ألف مرة، وقد ذهل لما رأى من عالم جديد من النجوم التي تبلغ عشرة أمثال ما دون عنها من قبل، وشاهد نجوم لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
ومع غاليله انقطعت الصلة مع مناهج البحث في
العلم القديم، ودشنت طريقة جديدة في البحث اعتبرت طريقة علمية بامتياز.
وشيئا فشيئا، أسس غاليليه نظريته حول مركزية الشمس لا مركزية الأرض، ونشر أهم هذه الاكتشافات في كتاب سماه "رسول من النجوم" عام 1610.
نظر إلى الكون نظرة مادية خالية من أية تصورات ميتافيزيقية كما كان الأمر مع سابقيه، فالعالم ليس سوى مادة وحركة، والحركة خاضعة لقانون العطالة أو القصور الذاتي، فالحركة تسير بسرعة معينة وباتجاه معين ما لم يكن هناك تأثير خارجي يزيد أو يقلل من سرعتها واتجاهها.
أدرك غاليليه أهمية تطبيق المنهج الرياضي على البحث في ظواهر الطبيعة، فالإشكالية العلمية عنده هي معرفة العلاقات بين الظواهر لا البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقية، وقد كتب في ذلك:
سيدرك القارئ بواسطة عدد لا يحصى من
الأمثلة، أهمـية الريـاضيـات وفـائدتهـا فــي
الوصول إلى أحكام فـي العلـوم الطبيعيـة،
وسيدرك أن الفلسفـة الصحيحة مستحيلة
من دون الاسترشاد بالهندسة.
غاليليه في روما
ذهب عام 1615 إلى روما لكي يعرض تلسكوبه على البابا في وقت كانت الكنيسة تعتبر أن الأرض مركز الكون وفقا لفهم معين لمنطوق الكتاب المقدس آنذاك، الذي يذكر في سفر يشوع أن الله أوقف حركة الشمس وهي الأعجوبة التي غالبا ما كان يشار إليها.
كيف يمكن التوفيق بين نصوص الكتاب المقدس والاكتشافات العلمية؟ أي التوفيق بين مركزية الأرض بحسب الرؤية الدينية ومركزية الشمس بحسب الرؤية العلمية؟ وهذه كانت مهمة غاليليه.
رأى غاليليه أن النظريات العلمية هي التي يجب أن تكون دليلنا في عملية تفسير النصوص المقدسة، وفي هذه الحالة، يكون علماء الطبيعة في وضع يمكنهم من فهم الكتاب المقدس أكثر من رجال اللاهوت.
هذه الفكرة، كانت ثورية في وقتها لأنها ستسحب من رجال الكنيسة قدرتهم على التفسير وبالتالي سطوتهم على المجتمع.
أحال البابا اكتشافات غاليليه إلى لجنة من اللاهوتيين لإبداء موقفها من نظريات غاليله، وتوصلت اللجنة في العام التالي إلى أن النظام الكوني الذي تحدث عنه كوبرنيكوس وغاليليه لا يمكن الدفاع عنه وهو عبارة عن هرطقة، ثم أوعزت اللجنة إلى محكمة التفتيش منع نشر نظرية كوبرنيكوس، وأوعز إلى غاليليه التعامل مع مركزية الشمس وحركة الارض على أنها مجرد افتراضات لا كحقيقة علمية، الأمر الذي شكل هزيمة له.
حدث تحول مهم عندما أصبح مافيو باربريني بابا الفاتيكان تحت اسم أوربان الثامن وهو صديق لغاليليه، وفي عام 1624 حصل غاليله من البابا على إذن بتألف كتاب "حوار"، شرط أن يذكر في الكتاب رأي البابا إن أي ظاهرة طبيعية يمكن أن تكون لها أسباب محتملة عديدة قد لا يكون بعضها معروفا، ومن ثم لا يمكن إرجاعها إلى سبب واحد بعينه.
وافق غاليله على ذلك، لكنه وضع رأي البابا في آخر الكتاب، وما أن صدر الكتاب حتى انفجر البابا غضبا.
لم يكن غضب البابا بسبب آراء غاليليه في الكتاب، لأن الأخير قدم آراءه بطريقة حوارية بين ثلاثة أشخاص، هم: سمبايشيو الأرسطي الذي دافع عن مركزية الأرض، وسالفاشيو الناطق باسم النظام الكوبرنيكي، وساغريدو وهو طالب يبحث عن التنوير.
كان غضب البابا متمثلا في أن غاليليه لم يخبره باتفاقه مع الكنيسة عام 1616 بأن يتعامل مع مركزية الشمس وحركة الأرض كافتراض لا كحقيقة.
دُعي جاليليو إلى جلسات استماع عام 1633، ثم سيق بعدها إلى كنيسة سانتا ماريا سوبرا مينرفا، وأمر أن يجثو أثناء تلاوة الحكم، حيث حكم عليه بتهمة الهرطقة، وأُمر أن يتلو هذا التراجع الرسمي، بعد توقيعه:
لقـد حكم علـي بأننـي متهـم بالهرطقـة بشــدة
وذلك لمـا بـدر منـي مـن اعتقـاد بــأن الشمــس
ثابتة، وبأنهـا مركز الكـون، وبـأن الأرض ليســـت
كذلك.
وإنــي أرجـو أن أمحـو كـل شـك أُثيـر حولـي من
عقـول حضراتكم وجميع المسيحيين المخلصين،
إذ أتراجـع بقلـب مخلص، وإيمـان صـادق عن كل
ما نسب إلـي، وإذ أُبغض وألعن كـل مـا ذكر مـن
إثــم وهـرطقـة وجميـع الآثـام والهرطقـات، وكـل
فرقة معادية للكنيسة الكاثوليكية المقدسة.
انتهى الأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله بمنطقة تلال توسكانا، وهناك استمر في البحث والتدريس والتأليف، قبل أن تقرر الكنيسة قطع عنقه.
إعادة صياغة الطبيعة
على الرغم من العلم المعاصر قد شكك في غاليليه كعالم اختباري لأنه غش في بعض مشاهداته ولجوئه في بعض الأحيان إلى الحجج الخطابية، إلا أنه له كان الفضل في اكتشاف قوانين سقوط الأجسام والحركة ذات التسارع الثابت.
كيف توصل غاليليه إلى قانون سقوط الأجسام:
ـ تسقط الأجسام في الفراغ بنفس السرعة مهما كان وزنها وطبيعتها.
ـ المسافة التي يقطعها الجسم الساقط متناسبة مع مربع الزمن الذي يستغرقه في الوصول.
لاحظ غاليليه في البداية أن الأجسام لا تسقط على الأرض بنفس السرعة بسبب أوزانها، وتشير هذه الملاحظة إلى أن اختلاف سرعة الأجسام الساقطة سببه اختلاف أوزانها.
غير أن غاليليه بإمعانه النظر أدرك أنه لا بد من أخذ الوسط الذي يحدث فيه سقوط الأجسام، والمقصود بالوسط هنا هو الهواء.
جرب غاليليه سقوط الأجسام داخل الماء فوجد أن السقوط يختلف في الماء عنه في الهواء، ثم قام بإجراء تجربة على صحن مملوء بالزئبق كونه أكثر كثافة من الماء، فوضع قطعا من الذهب والرصاص والمعادن الأخرى فوق سطح الإناء المملوء بالزئبق، واكتشف أن سرعة هذه الأجسام تفاوتت في سقوطها في حين أنها تساوت في سقوطها في الهواء، وهذا لأن الزئبق أكثر كثافة من الهواء.
تساءل غاليليو، ماذا سيحدث لو أننا تمكنا من إزالة مقاومة الوسط؟ سيكون الاحتمال الأكثر رجحانا هو أن الأجسام جميعها ستسقط في وقت واحد وبسرعة واحدة.
لقد تطلب الأمر نحو أربعة قرون للتأكد من نظرية غاليليه، فخلال مهمة لـ "أبولو 15" إلى القمر عام 1971 قام رائد
الفضاء الأمريكي ديفيد سكوت بإجراء التجربة على قانون غاليليه حيث لا توجد مقاومة هواء، فحمل في يده اليسرى ريشة صقر وفي يده اليمنى مطرقة، وتركهما في نفس الوقت، فاصطدما بأرض القمر في نفس الوقت، إذ كانت سرعتهما واحدة.
إن هذا القانون جعل غاليليه يحدث قطيعة إبستيمولوجية من النظريات العلمية السابقة، فلم يعد للأجسام كما يعتقد في السابق أن لها هدف تسير نحوه بانتظام، ولم يعد هناك معنى للتفكير بحركة طبيعية تتوقف من ذاتها، فجميع الأشياء وفقا لمبدأ العطالة/القصور الذاتي تظل في حالة سكون أو في حالة حركة مستقيمة منتظمة، ما لم تتدخل قوى خارجية تغير من سرعتها واتجاهها.
بعد ذلك، عمد غاليليه إلى دراسة الزمن لفهم حركة الأجسام، ولجأ إلى تجربة بسيطة لكن دلالاتها عظيمة: وضح لوحا أو سطحا مائلا، ثم وضع كرة حديدة في أعلى اللوح، وتركها تسقط على اللوح، ثم رقم النقاط التي يستغرقها سقوط الجسم بكل ثانية، بمعنى أنه وضع علامة على اللوح في الثانية الأولى من حركة الكرة، ثم علامة أخرى على اللوح بعد ثانتين من حركة الكرة، ثم علامة ثالثة بعد الثانية الثلاثة، وهكذا..
أخذ يقيس المسافات التي تفصل العلامات التي وضعها على اللوح للثواني التي اتخذتها الكرة كزمن للسقوط، فوجد أنه عندما يكون زمن السقوط ثانية واحدة تكون المسافة التي قطعتها الكرة 20 سم، وفي الثانية الثانية، أي زمن السقوط ثانيتان، تكون المسافة التي قطعتها الكرة 80 سم، وفي الثانية الثالثة تكون الكرة قد قطعت مسافة 180 سم.
تشير هذه التجربة إلى أن المسافة التي يقطعها الجسم الساقط متناسبة مع مربع الزمن الذي يستغرقه في السقوط.
لقد أدخل غاليليه الرياضيات في صلب فهم الظواهر الطبيعية، ومن دون تقديم المسائل العلمية بلغة رياضية لا إمكانية إلى حل ألغازها أو تفسير حركتها.
كتـاب الطبيعــة مسطر بلغـة الريـاضيــات، أي
الفلسفة مكتوبة في الكتاب الكبير الذي أمـام
أعيننا، غير أننـا لا نستطيع أن نقرأه إلا عنـدمـا
نتعلم تلـك اللغـة، ونـألف العـلامـات التـي بهـا
تكتب، فهي مكتوبة بلغة الرياضيات، وحروفها
مثلثات ودوائر وأشكال هندسية.
في عام 1741 بدأت الكنيسة بتقديم الاعتذارات لغاليليه، حيث صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب جاليليه والسماح بنشرها، وبعدها نشرت الكنيسة بحوث كوبرنيكوس أيضا، وفي عام 1939 قام البابا بيوس الثاني عشر بوصف غاليليه بأكثر أبطال البحوث العلمية شجاعة.
وفي 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1992 قام البابا يوحنا بولس الثاني بإلقاء خطبة علنية قد فيها اعتذار رسمي لغاليليه من الفاتيكان نتيجة قطع رقبته، وفي 2 نوفمبر 1992، تقرر عمل تمثال لغاليليه في الفاتيكان.
وأطلق آينشتاين على غاليليه لقب "أبي العلم الحديث" بسبب إسهاماته واكتشافاته العلمية الكبيرة في الفلك والفيزياء والرياضيات والهندسة.