عشية المناظرة الأولى بين ترامب وبايدن التي جرت وقائعها في الأسبوع الماضي، أجرى مركز «بيو» للأبحاث استطلاع رأي استند على عينة ضخمة من الناخبين؛ وقد كان أبرز ما ظهر في نتائج هذا الاستطلاع أن 56 في المائة من هؤلاء الذين أعلنوا أنهم سيصوتون لبايدن، أرجعوا قرارهم هذا إلى سبب وحيد بدا مثيرا للاهتمام؛ إذ قالوا: «سنمنحه أصواتنا لأنه ليس ترامب».
وفي المقابل، فإن قطاعا مؤثرا من هؤلاء الذين أعلنوا تأييدهم للرئيس الأمريكي أفادوا أيضا بأنهم سيمنحونه أصواتهم لمجرد أنه «ليس بايدن»؛ وهو أمر يمكن تصديقه رغم كثير من التحفظات ذات الوجاهة عن نتائج استطلاعات الرأي المصاحبة للعملية الانتخابية في الولايات المتحدة.
الشاهد، أن المجتمع الأمريكي يعاني من بروز درجة واضحة من الاستقطاب السياسي الحاد بين مجموعتين رئيسيتين في البلاد، يبدو أن إحداهما تميل إلى تبني قيم شعبوية وتستند إلى مخزون سياسي محافظ وتقليدي، تمثله قطاعات من الناخبين البيض والأكبر سنا، في مقابل مجموعة أخرى تضم في غالبيتها الأقليات والنساء.
عند تحليل المناظرة الأولى بين ترامب وبايدن برزت علامات هذا الاستقطاب الحاد، الذي انعكس بجلاء في انصراف المتناظرين عن الأداء الرصين العقلاني، وتورّطهما في الشقاق وتبادل الاتهامات والشتائم، وهو أمر حرم المناظرة من إنتاج خطاب سياسي، يمكن أن يساعد هؤلاء الذين يبحثون عن ذرائع تدعم خيارا عقلانيا. ووفق ما يقوله الباحث المرموق بول لازرفيلد، فإن النظرية الأولى التي تحكم عمليات التصويت، ويستفيد منها القادة الشعبويون تُسمى «النموذج الاجتماعي» (Sociological Model of Voting Behavior)، حيث تتحكم عوامل اجتماعية في خيارات الجمهور التصويتية، مثل الطبقة، والدين، والعرق، واللغة، والوظيفة. وحينما تكون الأولويات المثارة على المستوى الوطني تتعلق بمخاوف من فقدان العمل، أو تراجع المستوى الاقتصادي والاجتماعي، أو تحديات ذات طابع ديني؛ مثل الإرهاب، أو مخاوف ذات طابع عرقي، فإن الجماهير المأزومة تبحث عن «مُخلِّص» يعد بمواجهة تلك التحديات.
يذكّرنا هذا بما نجح فيه ترامب خلال حملته الانتخابية السابقة، التي تركز خطابه السياسي خلالها بوضوح شديد على تلك المخاوف، مُحمّلا الطبقة الحاكمة في واشنطن المسؤولية عن فقدان بعض المواطنين وظائفهم، وتراجع مستوياتهم الاجتماعية، وتفشي المخاوف الإرهابية، والإخفاق في مواجهة التحديات التي تفرضها الهجرة على سوق العمل والمجتمع في آن.
أما النظرية الثانية التي طوّرها الباحث كامبل، وتُسمى «الخيار النفسي» (Psychological Theory)، فتركّز على أهمية الأبعاد النفسية للمصوتين أكثر من الأبعاد الاجتماعية؛ مثل هوية الحزب الذي ينتمي إليه المصوت، والإطار الفكري الذي يحكم خياراته، والتاريخ العائلي للانتماء السياسي له.
وفي هذا الصدد، فإن الجماهير التي ترتبط تاريخيا بحزب يميني عادة ما تذهب إلى مرشح اليمين، بصرف النظر عما إذا كان يقدّم لها حلولا لمشكلاتها، أو يظهر قدرات ومهارات سياسية كافية لكي يفوز بثقتها. وهو أمر يفسر إعطاء الكثيرين من أعضاء الحزب الجمهوري أصواتهم لترامب، على الرغم من عدم ثقة قادة كبار في الحزب في قدرته على الحكم.
في ظل ازدياد دور الأبعاد النفسية والاجتماعية، فإن تأثير نظرية «الخيار الرشيد» (Rational Choice Theory)، التي طوّرها الباحث أنتوني دونز، منتصف القرن الماضي، يتراجع بقوة. تعتبر تلك النظرية أن المصوتين جماعة من العقلانيين، الذين يتخذون قراراتهم السياسية استنادا إلى تشخيص موضوعي لحاجاتهم، وأهدافهم، خصوصا في المجال الاقتصادي. ووفق هذا التنظير، فإن هؤلاء المصوتين يمنحون أصواتهم للقادة الذين يستخدمون خطابا سياسيا عقلانيا، حافلا بالأرقام، والمعلومات، والإحصاءات الدقيقة، والذين يمتلكون رؤية متكاملة لمقاربة قضايا العمل العام، ويحملون دراسات جدوى واضحة المعالم، وسياسات مقترحة قابلة للتنفيذ والقياس.
لقد غابت نظرية «الخيار الرشيد» عن المناظرة الانتخابية الأولى بين ترامب وبايدن، ويبدو أيضا أنها ستغيب بوضوح عندما سيتوجّه الناخبون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التي يتابعها العالم باهتمام كبير. وفي دراسة أجراها فريق بحث من جامعة نورثويسترن المرموقة في ضواحي مدينة شيكاغو، وظهرت نتائجها في أغسطس (آب) الماضي، اتضح أن الحزبين المتباريين في تلك الانتخابات المنتظرة، عملا على تعميق الاستقطاب بين أفراد الجمهور، عبر اتخاذ المواقف الحادة وتجاهل أساليب الإقناع العقلانية.
ومن ثم، سيكون الاستقطاب هو وسيلة الحصول على الأصوات.. لا وسط أو اعتدال، ولا خطاب متوازن، ولا حوار مع الآخر، ولا رغبة في الحصول على دعم مترددين إذا كان ذلك سيفقدك رضا مؤيديك المضمون تأييدهم.
تلك نكسة كبيرة لـ«الخيار الرشيد» ولكل خيار رشيد.