على مدى سنوات طويلة، كانت طبيعة عملي الصحفي في أقسام الأخبار الدولية ـ تتطلب مني متابعة المناظرات التي تتم بين المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكنت أستمتع بالحوار العقلاني الهادئ والغمز واللمز المتبادل برصانة، وميل المحكمين إلى طرح أسئلة محرجة على المتناظرين لاختبار مدى إلمام المتناظرين بتعقيدات القضايا الملحّة.
ثم كان فجر يوم الأربعاء 30 أيلول (سبتمبر)، الموافق مساء الثلاثاء 29 أيلول (سبتمبر) الماضي حسب توقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة، حين تواجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجو بايدن المرشح المنافس له على كرسي الرئاسة في الانتخابات المقررة في تشرين ثاني (نوفمبر) المقبل، وحسبت أنني اتابع النسخة الإنجليزية من فيلم من إخراج الراحل حسن الإمام فيه فاصل ردح من شاكلة: نعم، نعم يا دلعدي، يا أرذل من الرذيل؛ يا روح أمك.
كنت أدرك أن ترامب بلطجي وسوقي، ولكنني حسبت أنه سيكون رصينا وهو يواجه الملايين من أهل بلاده كي يقنعهم بأنه الشخص المناسب في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، وخاصة أن خصمه بايدن كان نائبا للرئيس السابق باراك أوباما، وعضوا مخضرما في مجلس الشيوخ لعقود طوال، ومشهود له بطول البال والذراع في شؤون الحكم، ولكن ولأن الطبع يغلب التطبع، فقد كان ترامب دون سوء الظن به بكثير، وظل طوال المناظرة غوغائيا بذيء اللسان وجلفا لا يعرف آداب الحوار.
ولأن الجاهل عدو نفسه، فقد رفض ترامب إدانة جماعات الاستعلاء العرقي "البيضاء"، وفي تلميح أقرب إلى التصريح قال إنه سيطعن في نتيجة الانتخابات في حال فوز بايدن.. وواصل التشكيك في نزاهة انتخابات لم تتم بعد، مما يشي بأنه يستشعر خسارته لها، ثم أطلق ما يمكن أن يسمى بشرارة الحرب الأهلية، عندما خاطب بالإسم منظمة براود بويز (الأولاد الفخورون)، وقال لهم كونوا على أهبة الاستعداد (إذا سارت الانتخابات بغير ما يشتهي)، فهذه المنظمة اليمينية المتطرفة مصنفة لدى السلطات الأمنية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا كجماعة عنف فاشستية، وسبق سجن العديد من أعضائها بعد إدانتهم بممارسة العنف الأهوج ضد أقليات عرقية ودينية.
بعد انتهاء مناظرة ترامب ـ بايدن بساعات قلائل، تابع كثيرون المناظرة السياسية بين رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسندا آرديرن، وزعيمة المعارضة جوديث كولينز، استعدادا للانتخابات العامة في السابع عشر من تشرين أول (أكتوبر) الجاري: حوار ساخن وأصوات ترتفع وتنخفض ولكن بكل تهذيب، وانتقادات متبادلة ولكن بلا انفعال، بل تبادلا الثناء والابتسام طوال المناظرة.
كان ترامب متنمرا وقحا فجا وفظا خلال المناظرة لأنه يعرف أن ذلك يروق لجمهوره من غلاة اليمنيين، وبالفعل وفور انتهاء المناظرة خرج أنصار براود بويز وجماعات يمينية أخرى متطرفة إلى الشوارع معلنين انتصار ترامب على بايدن، ومهللين للصفعات اللفظية التي أهالها لسان ترامب على بايدن، وسبق لترامب أن صرح في لقاء تلفزيوني عن ثقته بأن قاعدته الجماهيرية بين قوى اليمين لن تهتز بسبب أفعاله أو أقواله.
وأضاف: حتى لو أطلقت النار على شخص في الجادة الخامسة في واشنطن، فإن ذلك لن يخصم من رصيدي من أصوات الناخبين. ولما سئل كيف يكون ذلك قال: عندما تكون نجما تستطيع فعل كل شيء دون محاسبة. وتستطيع أن تمسك بالنساء من فروجهن دون أن يعترض أحد.
كان ترامب متنمرا وقحا فجا وفظا خلال المناظرة لأنه يعرف أن ذلك يروق لجمهوره من غلاة اليمنيين، وبالفعل وفور انتهاء المناظرة خرج أنصار براود بويز وجماعات يمينية أخرى متطرفة إلى الشوارع معلنين انتصار ترامب على بايدن،
وما يعنيه ترامب هو أنه يراهن بأنه يدغدغ عواطف جمهور معتل، يمجد البلطجة والنجومية الجوفاء، ويجعل من القتلة والسفاحين نجوما، ولهذا يهلل اليمينيون لما يقوله ترامب من إساءات بحق السود والمكسيكيين، ووعيده المتكرر بتصعيد الحرب الاقتصادية على الصين، ولا يعنيهم في شيء أن روسيا استخدمت عضلاتها التكنولوجية لضمان فوز ترامب على هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية عام 2016، ولا أن فضائح ترامب الجنسية منشورة على حبال الغسيل على امتداد الكرة الأرضية.
جاء في تقرير لمجلة علم النفس السياسي والاجتماعي الأمريكية أن شعبية ترامب تعزى لإدمان الأمريكان لكل منتجات صناعة الترفيه، وبخاصة ما يعرف ببرامج الواقع، وأن ترامب كان يتمتع بمريدين منذ أن كان يقدم برنامج (المتدرب The Apprentice) الذي كان يشارك فيه عدد من الشبان والشابات للفوز بوظائف، وفي كل حلقة كان ترامب يتلذذ بإبعاد أحد المتنافسين بقوله: يو آر فايرْد ـ أنت مفصول، وأن في الجمهور الأمريكي شرائح كبيرة ترى في ترامب شخصا غريبا، هناك الكثير من المتعة في متابعة ما يقول ويفعل، دون النظر إلى ما أمام ووراء تلك الأقوال والأفعال.
تكمن خطورة ظاهرة ترامب في أنها تعطي الأنظمة الديكتاتورية فزاعة تخيف المواطنين من الديمقراطية البرلمانية، بل إن مواطنين يعيشون في ظل أنظمة قمعية قد ينفروا من تلك الديمقراطية بذريعة: هل رأيتم كيف جنت على الولايات المتحدة، فجعلتها تحت إمرة شخص معتوه بلا خلق أو حياء أو ضمير؟
ثم كان ما كان من أمر إخضاع ترامب لفحص فيروس كوفيد
ـ 19 المسبب للكورونا، فجاءت النتيجة موجبة وبهذا يكون اسم ترامب قد ارتبط لأول
مرة بشيء "إيجابي"..
دلالة تصريح بومبيو حول مرتزقة الفاغنر
التطبيع وطرح المبادئ في سوق العولمة
هل تقضي السيوف المسلولة على ترامب؟