(1)
يقول مثل روسي شهير "لا تنظر للسماء دائما، فتسقط في بئر". وتلك مقاربة مهمة للموازنة بين الأحلام والتطلعات، وبين مراعاة الواقع وتفاصيله، وهذا أحد مآزق د. عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء
السوداني، وهو يسلك طريقا مليئا بالعثرات والمزالق دون تدبر حصيف، ورؤية عميقة.
وربما ذلك بعض من نتاج غرفة خاصة تدير الشأن العام أو تنفيذ توصيات ما، كما يحدث عادة حين ترتهن الدول للبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو تسقط تحت إرادة الوصاية الخارجية، أو قد يكون ذلك اتساقا مع طبيعة مغامرة للدكتور حمدوك. فقد قال في لقاء مع الإذاعة السودانية يوم ٢١ آب/ أغسطس ٢٠٢٠م: "أنا متفائل بطبعي وأنظر للأمور بطريقة مختلفة، وحتى عندما يرى الناس الأشياء تمضي لي تحت فإني أراها تمضي لي فوق".
وأكثر ما نخشاه أن تكون تلك قناعته حتى اليوم. فقد وصلنا قاع الانحدار، وتم أمس تدوين أكبر صف للوقود وأكبر صف للخبز، وانعدام للغاز، وبلا أفق للحل. والتظاهرات الشعبية حاصرت مجلس الوزراء تطالب بإقالة الحكومة، وكل ذلك صبيحة تقديم ١٦٠ توصية هي خلاصة المؤتمر
الاقتصادي (٢٦-٢٨ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠م)، وما زال هناك مزيد!
(2)
لم تنشر توصيات المؤتمر الاقتصادي حتى اليوم الخميس، الأول من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٠م، وتم الاكتفاء بخلاصات تشير إلى الموافقة على رفع الدعم السلعي، وهذه الغاية الأساسية من المؤتمر لا أكثر.
فقد مضت الحكومة الانتقالية في هذا الاتجاه منذ نيسان/ أبريل ٢٠٢٠م، وكانت بحاجة لإعطاء شرعية ذات بعد شعبي وحزبي، خاصة وأن الحاضنة السياسية ذات التوجهات اليسارية ظلت تعارض هذا التوجه بصوت جهير مع تهديدات متتالية دون تقديم بدائل.
ولأن دعم الوقود والخبز يمثل ٦١ في المئة من الموارد المالية الذاتية للحكومة، ويصل إلى ٢٥٢ مليار جنيه سنويا، ومع زيادة المرتبات بنسبة ٥٦٩ في المئة، فإن هذا ما وصفه ممثل بنك السودان في ورقة السياسات المالية بأنه "وضع السم في كأس عسل".
واضطرت الحكومة لطباعة النقود يوميا، وهو ما يشار إليه بـ"الإستدانة من النظام المصرفي"، وهو أمر شديد الخطورة وبالغ التأثير على الاقتصاد. وقد أشارت إحدى الصحف الحزبية إلى أن الحكومة استدانت خلال ٦ أشهر ١٢٦ مليار جنيه من القطاع المصرفي، وهو ما يمثل ٨٥ في المئة من حجم التمويل المصرفي. ويشير ذلك لتوقف التمويل للمشروعات التنموية والاستثمار، وهذا ما نشهده يوميا، حيث تراجع النشاط التجاري، وعزوف عن الاستثمار، وتضخم مفرط، وحكومة عاجزة عن أي خيارات! وخاصة أن كل الأوراق ليست بيدها!
(3)
ناب البنك الدولي عن الحكومة في طرح الخيارات، فقد أورد في نشرة له يوم ٢٦ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠م ما ملخصه الآتي: "أهمية التحرر التدريجي لسعر الصرف، وتعزيز استقلالية البنك المركزي، وتوسيع القاعدة الضريبية وتعزيز إدارة الإيرادات، وإلغاء دعم الوقود وإنشاء شبكة أمان".
ومع كثرة الدراما خلال جلسات المؤتمر الاقتصادي وحالة التشنج والهتاف والأرقام الجزافية وبعض الآراء الفطيرة، فإن الخلاصة هي مقترحات البنك الدولي تلك. وهذه كارثة بكل المقاييس، لأن الراهن الاقتصادي لا يتحمل أي مغامرات وضغوط إضافية، ودعم البنك الدولي لا يتجاوز في حده الأقصى ٨٩٩ الف أسرة، بينما تقاريره تشير إلى أن نسبة
الفقر وصلت إلى ٦٥ في المئة (عدد السكان أكثر من ٤١ مليون نسمة).
لقد كان مأمولا أن تتجه الحكومة الإنتقالية إلى إدارة الموارد والإمكانيات برشد، وتقليل الإنفاق، وتوظيف المردود في زيادة قيمة مضافة والتوسع في الإنتاج، وقد خاب الرجاء وخمد الأمل.
في إطار مداولات الأزمة الوقود، فقد رمي وزير الطاقة خيري عبد الرحمن الأمر على وزارة المالية، وقال: "إن البواخر وصلت ميناء بورتسودان في انتظار إكمال الإجراءات". وهذه إشارة للعجز عن دفع الاستحقاقات المالية، فقد استُنزفت كل الموارد، وانسحبت وزارة التجارة والصناعة من إجراءات أمر الدقيق وتركت الأمر أيضا لوزارة المالية. ووزارة المالية ووزارة الطاقة والتعدين من الوزارات التي لم تحظ بتعيين وزير بعد ويديرها وزراء بالتكليف، وهذا عجز منظومة كاملة، بسياساتها وساستها والتنفيذيين، وليس أمامهم خيار سوي الرحيل..
سنقول "شكرا د. حمدوك" ولمرة واحدة ولسبب واحد، وهو حل حكومته والمغادرة..