على مدار السنوات السابقة، أهمل المجتمع الدولي الملف الاقتصادي السوري فيما استبعد الملف القضائي بشكل شبه نهائي، لصالح ترتيب الملف العسكري والسياسي.
ومع تراجع الملف العسكري من جهة والجمود الذي خيم على الملف السياسي من جهة أخرى، فقد بدأ الملف الاقتصادي يحتل صدارة السياسة الدولية تجاه النظام السوري، فيما بقي الملف القضائي واعدا في مواجهة النظام ومحاكمته على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها.
ورغم أن المجتمع الدولي لم يتخذ بعد قرارا بتفعيل الملفات الجنائية ضد النظام السوري في المحاكم الدولية، فإن قرار هولندا رفع دعوى قضائية ضد النظام السوري في محكمة العدل الدولية يعتبر سابقة من نوعها قد تدفع دولا أخرى لرفع دعاوى ضد النظام، بما يؤدي في المستقبل إلى تشكيل مجموعة من الدعاوى القضائية مدعومة من دول متعددة، يكون لها من القوة الأخلاقية والقانونية ما يجعلها تتحول إلى قوة سياسية.
أهمية الخطوة الهولندية لا تكمن في نتائجها المستقبلية فحسب، بقدر ما تكمن في أنها توجه رسالة بأن فشل مجلس الأمن الدولي في تحويل الملفات الجنائية للنظام السوري إلى المحاكم الدولية بسبب الفيتو الروسي ـ الصيني، لا يجب أن يحول دون قيام الدول بشكل منفرد في رفع دعاوى ضد النظام.
وهذه مسألة مهمة، فثمة فرق كبير بين وضع لا يكون فيه النظام السوري يواجه دعاوى قضائية من دول عدة، وبين وضع يواجه فيه دعاوى متعددة، بما يجعله ليس فقط عرضة لملاحقات قضائية، بل والأهم أن أية محاولة لرفع هذه الدعاوى يتطلب تنازلات سياسية من قبل النظام، إذا ما تحولت هذه الدعاوى فعلا إلى قوة قانونية.
وليس توجه هولندا إلى محكمة العدل الدولية يؤدي إلى شرعنة النظام كما رأى البعض، على اعتبار أن النظام السوري عضوا في المحكمة، وبالتالي فإن الدعوة ضده هي اعتراف من طرف هولندا به كدولة لها شرعيتها.
السبب في توجه هولندا إلى محكمة العدل الدولية يعود لاعتبارين اثنين:
ـ محكمة العدل الدولية محكمة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة، فهي تشكل الذراع القضائية لها بموجب المادة 93 من ميثاق الأمم المتحدة، وعلى هذا الأساس فإن جميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة يمكنهم اللجوء الى المحكمة للتقاضي وتقديم شكوى أو عرض الخلافات القانونية التي تشترك بها عدة دول، أما المحكمة الجنائية الدولية، فهي محكمة مستقلة لا تتبع للأمم المتحدة.
ـ النظام السوري موقع على محكمة العدل الدولية، وبالتالي يحق لكل دولة عضو في المحكمة رفع دعوى قضائية ضد أية دولة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، في حين لم يوقع النظام السوري على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي هو ليس عضوا فيها.
ولهذا السبب رفضت المحكمة الجنائية الدولية عام 2017 دعوى قضائية رفعها الائتلاف الوطني ضد النظام، وأوضحت في بيان لها آنذاك أن لا صلاحية قانونية لها كي تحقق في أية جريمة ارتكبت في الأراضي السورية، لأن سوريا ليست طرفا في المعاهدة المؤسسة للمحكمة.
أهمية الخطوة الهولندية لا تكمن في نتائجها المستقبلية فحسب، بقدر ما تكمن في أنها توجه رسالة بأن فشل مجلس الأمن الدولي في تحويل الملفات الجنائية للنظام السوري إلى المحاكم الدولية بسبب الفيتو الروسي ـ الصيني، لا يجب أن يحول دون قيام الدول بشكل منفرد في رفع دعاوى ضد النظام.
غير أنه في عام 2019، قدم محامون دوليون بالوكالة عن 28 لاجئا سوريا اضطروا للجوء إلى الأردن، شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية تتضمن اتهامات لنظام بشار الأسد باقتراف جرائم ضد الإنسانية.
واستند المحامون في هذه الدعوى إلى حالة سابقة، حين قدم لاجئون من أقلية الروهينغا المسلمة فروا إلى بنغلاديش دعوى مماثلة أمام الجنائية الدولية لملاحقة سلطات ميانمار عن جرائم ضدهم، رغم أن ميانمار ليست عضوا بالمحكمة الجنائية على عكس بنغلاديش.
وأذنت المحكمة في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 بإجراء تحقيق في الجرائم المزعومة ضد الإنسانية التي ارتكبتها حكومة ميانمار.
لكن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مقتصر على الأفراد لا الدول والحكومات، بعكس محكمة العدل الدولية المختصة بدعاوى ضد الدول والحكومات لا الأفراد، ومن هنا اختارت هولندا محكمة العدل الدولية لترفع دعوى قضائية ضد الحكومة السورية لا ضد الأسد بشكل شخصي.
ومع أن اختصاص محكمة العدل الدولية متعلق بالمنازعات بين الدول، إلا أنها تقبل دعاوى ضد الجرائم الإنسانية، ففي عام 1993 أودعت جمهورية البوسنة والهرسك طلبا ترفع به دعوى على صربيا والجبل الأسود بشأن نزاع يتعلق بانتهاكات لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948.
خلال العقود الماضية تم تجاهل أحكام محكمة العدل الدولية كونها لا تمتلك سلطة فرض تطبيق الأحكام والقرارات، غير أن ذلك، لا يقلل من أهمية الخطوة الهولندية، فليس المطلوب الآن هو أن تتحول الأحكام القضائية إلى قوة قانونية ملزمة على الأرض، فالمجال السياسي الدولي لا يسمح بذلك، وما هو مطلوب الآن هو أن تتشكل منظومة قضائية ـ قانونية يشارك فيها أكبر قدر ممكن من الدول، بحيث تشكل أداة ضغط حقيقية وتجعل تكلفة التهرب من المحاكمة عملية باهظة الثمن على المستوى السياسي.
توجه هولندا إلى محكمة العدل الدولية يأتي في سياق دولي بدأ منذ عام 2014 لإيجاد أدوات ضغط خارج مجلس الأمن الذي أصبح مشلولا، وكان من نتائج هذا التوجه أن صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016 على تأسيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة.
وفي كانون الثاني (يناير) 2018 أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن إطلاق مبادرة تتضمن 30 دولة، وتعمل على منع مستخدمي السلاح الكيميائي من الافلات من العقاب، بعد استخدام روسيا حق الفيتو مرتين لمنع مواصلة تحقيقات دولية لكشف مستخدمي هذا النوع من السلاح في سورية.
*كاتب وإعلامي سوري