من آثار جائحة كورونا وما
ارتبط بها من أزمات اقتصادية ما حل بالتجارة الدولية وتراجعها الحاد في بداية
الأزمة، بما جعل منظمة التجارة العالمية تتنبأ بانخفاض سنوي لها تراوحت تقديراته
بين 13 في المائة و32 في المائة. ولكن في خلال الأسابيع الماضية عاودت طلبات
استيراد السلع المصنعة ارتفاعها في 14 دولة من 38 دولة هي الأكبر إسهاما في
التجارة الدولية والتي ترصد نشاطها التجاري والاقتصادي شركة الأبحاث «أي إتش إس
ماركيت». وقارنت صحيفة وول ستريت المعنية بالشؤون الاقتصادية هذا الأداء بما جرى
بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. مؤكدة أن مؤشرات عودة التجارة بعد أزمة
كورونا جاءت أسرع من الأزمة السابقة، بما تشهد به معدلات زيادة الشحن البحري في
عدة موانئ آسيوية وأميركية وأوروبية، وصولا لمستويات ما قبل أزمة كورونا، ولكنها
لم تسوق البشرى من دون تحفظات بأن مستوى التجارة في هذه الدول ما زال أقل بكثير من
العام السابق. وهذا متوقع في اقتصاد عالمي يشهد ركودا هو الأكبر منذ الكساد الكبير
الذي بلغ ذروته في الثلاثينيات من القرن الماضي.
كما أن هذا التعافي في حركة التجارة غير شامل
إذ استأثرت به الصين وكوريا وألمانيا، فالدول المصدرة الأكثر اعتمادا على السلع
المصنعة أفضل حالا من تلك التي تشكل الخدمات تأثيرا أكبر في اقتصادها مثل إيطاليا
وإسبانيا اللتين سينكمش اقتصادهما بحوالي 10 في المائة مقارنة بالعام الماضي.
إذا ما انتقلنا إلى ما هو أهم من التغيرات في
الأجل القصير وصفقاته وتقلباته إلى الاتجاه العام في حركة التجارة مستقبلا
وتأثيرها على الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة، بما في ذلك الاقتصادات
العربية، ومدى نموها وقدرتها على إتاحة فرص العمل ومكافحة الفقر ينبغي لنا النظر
في أربعة عوامل تسهم في تشكيل العولمة الجديدة:
أولا، أن عددا من الاقتصادات الكبرى الغربية
قد تبنت قبل أزمة كورونا إجراءات كابحة لحركة التجارة ومقيدة للهجرة إلى أراضيها
ومهددة لمقومات عمل النظام الدولي الاقتصادي متعدد الأطراف، بما سيتجاوز أثره ما
ترتب على الأزمة الراهنة. كما سيدفع التباين في الأداء بين الدول الأكبر اقتصاديا
إلى زيادة حزم التحفيز المكلفة لموازنات الدول وإلى زيادة مديونياتها، كما سيؤجج
اللجوء لمزيد من الوسائل الحمائية بما سيعوق حركة التجارة مجددا.
ثانيا، أن العولمة قد لا تتراجع كما يقدر
البعض، لكنها ستتشكل من حيث أطرافها الفاعلة بين انحسار نسبي لتأثير بعض اقتصادات
استمرت في هيمنتها على حركة التجارة والاستثمار عالميا منذ الحرب العالمية الثانية،
وبزوغ أكبر لأدوار اقتصادات صاعدة تنتمي إلى نصف العالم الشرقي مع تنام ملحوظ في
قدراتها بمجالات الابتكار وتكنولوجيا المعلومات.
ثالثا، أن التجارة العالمية تتحول من شحن
الحاويات إلى منصات تجارتها الإلكترونية وشبكات تكنولوجيا المعلومات لتنقل طرودا
أصغر حجما وأعلى قيمة من الحاويات التقليدية التي اعتمدت عليها حركة التجارة
الدولية في القرن الماضي. وقد ناقشت في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغراء ما
ذكره جاك ما، مؤسس مجموعة علي بابا الصينية، عن أنه عندما تنبأ منذ عشر سنوات بأن
تجارة الطرود ستتجاوز مليار طرد سنويا لم يصدقه معاونوه، فإذا بهذا الرقم يتحقق
أسبوعيا وليس سنويا. وأنه يهدف من خلال مؤسسته إلى أن يربط لوجيستيا كل مواقع
الإنتاج والتجارة والاستهلاك بما يضمن وصول طرود السلع والمنتجات لطالبيها في خلال
مدة لا تتجاوز 72 ساعة في أي مكان حول العالم، مع تخفيض تكلفة النقل بنحو الثلثين
باستخدام قواعد البيانات الكبرى.
رابعا، تؤثر في اتجاهات العولمة الجديدة
تغيرات مهمة في التركيبة السكانية في دول متقدمة، مع زيادة متوسطات أعمار سكانها
وتبدل أنماط الاستهلاك وحجمه ونوع السلع المطلوبة في أسواقها فيتراجع استيرادها
وتهبط مشاركتها في التجارة الدولية. كما أن زيادة نسب متوسطي الدخل واحتياجاتهم في
دول نامية ستحول مسارات التجارة في اتجاهات هذه العولمة المستجدة على النحو الذي
شرحه مارك لفنسون المحلل لشؤون التجارة الدولية في كتابه الجديد عن تحول التجارة
من «نقل» السلع التقليدية إلى «نشر» منتجات تحوي قيما ملكية فكرية ومعرفية أعلى. فتجد
على سبيل المثال أن تطبيقات الحاسب والبرمجيات تشكل نسبة أعلى من أسعار السيارات
بما قد يصل إلى 30 في المائة من قيمتها. كما يرصد في كتابه أن صناعات صغيرة الحجم
قريبة من مناطق الاستهلاك يتزايد نصيبها في الأسواق.
وهذا كله في تقديري يعيد تشكيل خطوط التجارة
الدولية ليس فقط في إطار عولمة جديدة بل ترتيبات إقليمية مختلفة عما هو قائم.
وسيتوجه النشاط الاقتصادي استثمارا وتجارة حيثما تتيسر قواعد العمل ويتطور مناخ
الاستثمار وتستقر التشريعات وترتقي أسس الحوكمة وتحفظ الحقوق وتحترم العقود. ومع
شدة المنافسة حول إمكانية الانتفاع بمستحدثات تكنولوجيا المعلومات ينبغي الاستعداد
لها بالاستثمار في البشر وكفاءتهم وإتقانهم لعلوم التحول الرقمي وإدارة قواعد
البيانات الكبرى.
فهل سيعوض العرب بمكاسب في التجارة في عصر
الطرود ما خسروه في عهد الحاويات؟ والإجابة ينبغي أن تكون في إطار التعامل مع سؤال
أكبر عن مستقبل التعاون الاقتصادي العربي، مقارنة بوضعه الراهن الذي أهدر مقومات
الثقافة المشتركة ووحدة اللغة والجغرافيا وتميز الموقع. فلم ييسر هذا كله تحقيق أي
تقدم يذكر في تفعيل مستويات الاندماج الاقتصادي أو تطبيق فعال لتعهداته: بداية من
المستوى الأدنى المتمثل في الاتفاقات التفضيلية للتجارة العربية البينية، التي لم
تتجاوز 13 في المائة من إجمالي التجارة الخارجية، إلى المستوى الأعلى للاندماج في
شكل اتحاد اقتصادي، مرورا بالتجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة التي
لم تتقدم رغم وعود قطعت ومواثيق وُقعت.
الجديد في الأمر، رغم الحال المتواضع للتعاون
الاقتصادي العربي، هو أثر العوامل الخمسة السابقة المعيدة لتشكيل العولمة والدافعة
للتنويع الاقتصادي على المستوى المحلي بتوطين التنمية وتحديث مجالاتها، خاصة
للاقتصادات ذات الحجم سكانيا والتنوع قطاعيا والقادرة على تحقيق التحول الرقمي.
هذه العوامل ذاتها محفزة لإعادة إحياء التعاون الإقليمي على مستوى العالم وليس
المنطقة الاقتصادية العربية وحدها باعتبارات الصالح القومي وأولوياته في المقام
الأول. فتغليب هذه الاعتبارات بين الدول العربية من شأنه إدراك مزايا التعاون
الإقليمي التي أدركها من قبل موقعو اتفاقية روما بين دول أوروبية في عام 1957.
وكذلك مؤسسو تجمع الآسيان في عام 1967، لتحقيق رفاه اقتصادي بتخفيض تكلفة
المعاملات وزياد حجم الأسواق ونطاقها لتوفير الاحتياجات الأساسية ومتطلبات
أسواقها، وزيادة القدرة التفاوضية مع أطراف خارجية. ويزيد على ما تقدم بلوغ مقاصد
الأمن وغايات الاستقرار التي افتقدها العالم العربي لسنوات طويلة كان أسوأها ما
شهده هذا العقد الذي أوشك أن يطوي صفحاته بهذه السنة الفارقة بأحداثها المشهودة
التي كان أهونها شدة ما ألم باقتصاد العالم وتجارته.
(الشرق الأوسط اللندنية)