منتصف شهر آب (أغسطس) الماضي، جمعت عريضة أطلقها مزارع فرنسي أكثر من سبعين ألف توقيع للمطالبة بـ "العدالة لمارسيل" بعد أن أرداه أحد الجيران قتيلا على إثر نزاع قضائي انتهى لمصلحة مارسيل. موريس سبق أن حاز على حكم قضائي مماثل بعد معركة قضائية أثارت ضجة كبيرة بفرنسا، والحكم كان "حق الديكين في الصياح".
قضية الديك موريس دفعت الجمعية الوطنية الفرنسية إلى إقرار اقتراح قانون يدرج مفهوم التراث الحسي للأرياف في القانون الفرنسي. فرنسا الأنوار وحقوق الإنسان انتصرت عدالتها لحق الديكة في "الصياح"، وهي نفس العدالة التي سيُحاكم قاتل مارسيل أمام أنظارها حماية لحق خمسة صغار تركهم الأخير وراءه لمواصلة المسيرة فجر كل يوم جديد.
وفي الفاتح من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، أعلن الجيش الفرنسي أن جنوده، المنضوين تحت لواء قوة برخان المتمركزة بدولة مالي، قتلوا عن "طريق الخطأ"، مدنيا ماليّا. لم يحظ المواطن المالي بتعاطف الفرنسيين ولا بعريضة على الفيسبوك تندد بالجريمة التي وقع ضحية لها.
بعدها بأيام فقط، سقط جنديان من نفس القوة الفرنسية صرعى لقنبلة محلية الصنع وهو ما استدعى تعاطف الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي "انحنى باحترام بالغ أمام تضحية الجنديين" حسب بلاغ لقصر الايليزيه وأضاف أنهما سقطا في "مهمتهما ضد الإرهاب في الساحل". هو نفس "الاحترام الأقصى" الذي أبداه ماكرون شهورا قبل ذلك وهو يتلقى خبر مقتل ثلاثة عشر جنديا في نفس البلاد ومن نفس الفرقة على إثر تصادم طائرتين مروحيتين عسكريتين.
يومها نشرت مجلة شارلي ايبدو رسما كاريكاتوريا على موقعها الإلكتروني، دون أن تجرؤ على وضعه على غلافها الورقي، يظهر فيه ماكرون واقفا أمام أحد النعوش وقد لُف بالعلم الفرنسي، مع عبارة "انضممت للجيش لأكون متميزا عن الآخرين" وهو شعار استخدمه الجيش الفرنسي وقتها للدعوة إلى الانضمام لصفوفه. ووجه الرسم بغضب كبير اضطرت معه المجلة إلى الإقرار بأهمية عمل الجيش الفرنسي مع دفاعها عن روحها "الساخرة".
لن تعيد المجلة نشر نفس الرسم اليوم متابعة للحدث فهي مشغولة بموضوعها المفضل الذي لا يكلفها بيان "اعتذار" أو غضبا شعبيا، بل يمنحها الدعم والمساندة في مسيرات رُفِعت فيها الإساءات للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبحضور "قادة" عرب ومسلمين انقادوا وراء شعارات حماية حرية الرأي والتعبير، وهم الذين تمتلئ سجونهم بالصحفيين والنشطاء السياسيين.
فرنسا التي تكفل للديكة حق الصياح كل صباح، هي نفسها التي تكفل حق ازدراء الدين الإسلامي والنيل من تعاليمه ورسوله. لكنها تسن بالمقابل القوانين الزجرية ضد ما تسميه "معاداة للسامية" أو تشكيكا في المحرقة وما سواهما. وعلى هواها تسير بقية بلدان القارة العجوز حتى وصل الأمر بـ "اليمين المتطرف" الدنماركي إلى حرق القرآن علنا والتأكيد على إعادة الفعل بمواعيد محددة بالسويد استدعت من راسموس بالودان، رئيس حزب هارد لاين، طلب الجنسية السويدية لإنجاز المهمة المقدسة التي صارت عنده هواية إمعانا في التحدي.
نشر الكراهية يبدأ من استفزاز المشاعر الدينية للأفراد والجماعات. وضعف التنديد الإسلامي بإعادة نشر الرسومات ليس دليل قبول أو استهانة، وجرائم فرنسا المستمرة في كثير من عملياتها الخارجية لا يزيد الحقد إلا اشتعالا.
والتحدي هو الشعار الذي رفعته شارلي وهي تعيد نشر الرسومات المسيئة للنبي الكريم، عشية نظر المحاكم في قضية الهجمات التي شهدتها فرنسا شهر كانون الثاني (يناير) 2015 وكان مقرها مسرحا لأعنفها. شارلي إيبدو أرفقت إعادة الرسومات بافتتاحية تعلن فيها أنها "لن تنحني ولن تستسلم أبدا ".
هذا الموقف يستمد قوته من "الدعم" المتواصل من الطبقة الحاكمة بفرنسا لتوجه المجلة في الإساءة للإسلام. فإيمانويل ماكرون استخسر على المسلمين، ومن داخل تراب لبنان، أي إدانة لما اقترفته المجلة من مساس متكرر ومع سبق إصرار لمشاعرهم الدينية. المسلمون ليسوا جنودا في صفوف قوة برخان أو غيرها من أساطيل الجيوش الفرنسية المنتشرة في العالم رغبة في إحكام القبضة على مصائر الشعوب وثروات البلدان ودغدغة لأحلام استعمارية تتداعى يوما عن يوم في مواجهة ذاكرة مطبوعة بالدم، تحاول باريس الهرب من وقع جرائمها دونما قدرة على مواجهة حقيقتها. فـ"الجمهورية لن تمحو أي أثر أو اسم من تاريخها ولن تزيل أي تمثال" والكلام لماكرون.
الاستعمار الفرنسي واستعباد أبناء المستعمرات حقيقة لا يمكن نكرانها. مجلة لونوفيل اوبسرفاتور نشرت مقالا تناولت فيه تجارة الرقيق من زاوية تواطؤ الصحافة الفرنسية وقتها مع النخاسين حين اعتبرت أن "العبودية مفيدة مهما كان الرعب الذي يصاحبها" أو أن "إلغاء العبودية أدى إلى تعطيل إمدادات البلاد". كان هذا في القرن الثامن عشر. لكن مجلة "فالور اكتويل" أعادت الموضوع إلى الواجهة حين أظهرت في قصة مصورة نشرتها، قبل أيام، عضوة بالجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، من أصل غابوني، وحول عنقها سلاسل كالعبيد.
لم يتأخر الرد الرسمي والحزبي، من رئيس الجمهورية إلى عضو بارز في الحزب اليميني المتطرف التجمع الوطني لمارين لوبن، وهو رد تسابق فيه الجميع إلى التنديد بالواقعة مع الدعوة الصريحة إلى إظهار الاحترام الواجب لممثلي الأمة المنتخبين. العدالة الفرنسية فتحت تحقيقا في القضية بشبهة "اعتداءات ذات طابع عنصري". هؤلاء رموز وجب توقيرهم لكن ديانة بحجم الإسلام ونبيّاً بحجم الرسول الكريم مجالات مستباحة للسخرية والازدراء. اضطرت المجلة إلى تقديم بيان اعتذار مع دفعها تهمة العنصرية عن منشوراتها. هذه فرنسا التي تصدر فيها المجلات بيانات توضيح أو اعتذار عندما يتعلق الأمر بالجيش ومنتسبيه أو البرلمان وأعضائه، أما حين يتعلق الأمر بالإسلام ورسوله فالرد تحدٍّ ومجاهرة بالعداء، أو تقديم بلاغ للشرطة بدعوى تلقي تهديدات إرهابية كما في حالة طارق رمضان، بعد أن صورته شارلي إيبدو في وضع نشاط جنسي وهو يقول "أنا سادس أركان الإسلام".
عندما رفض ماكرون إدانة إعادة نشر الرسومات، كان تبريره الدفاع عن حرية التعبير. وهي نفس الحرية التي سقطت، دقائق بعد ذلك، وهو يواجه الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بجريدة لوفيغارو، موبخا إياه على تقرير فضح فيه نفاق فرنسا ورئيسها في التعامل مع الأزمة اللبنانية طمعا في موقع قدم يغازل أحلام استعادة الانتداب، مع انبطاح قادة الأحزاب والفنانين والسياسيين هناك. كلمات ماكرون عن "عمل خسيس وغير مهني ومروع من الناحية الأخلاقية" تظهر فهم الرجل لحرية الإعلام. ولو كانت له القدرة على الزج بمالبرونو في السجن لفعل كما يفعل أصدقاؤه في محميات الشرق الأوسط دون خوف أو وجل من مواجهة بيانات إدانة شفهية ليس إلا. فرنسا مهتمة بما هو أكبر من حرية الصحافيين، فالمصالح الاقتصادية والتوازنات في طور البناء بالمنطقة أهم من قلم يكسر أو جسد يقطع أشلاء.
في العام 2007، رفضت محكمة فرنسية اعتبار رسومات شارلي إيبدو تحريضا على كراهية المسلمين. أقل من عشر سنوات بعدها تحول مقر المجلة إلى مسرح جريمة شنعاء. قتل الأخوان كواشي، منفذا العملية، واعتقل اميدي كوليبالي لكن ذلك لم يوقف الهجمات على البلاد.
نشر الكراهية يبدأ من استفزاز المشاعر الدينية للأفراد والجماعات. وضعف التنديد الإسلامي بإعادة نشر الرسومات ليس دليل قبول أو استهانة، وجرائم فرنسا المستمرة في كثير من عملياتها الخارجية لا يزيد الحقد إلا اشتعالا. شرارة الرسومات بدأت من الدنمارك قبل أن تجتاح أوروبا، ولا نستبعد انتقال "موضة" حرق القرآن منها إلى بقية دول القارة العجوز. اميدي كوليبالي من أصل مالي حيث يتساقط الجنود الفرنسيون بين لحظة وأخرى. والأمل ألا نستيقظ على يوم يتصدر فيه مانشيت (كل هذا من أجل هذا)، الذي عنونت به شارلي ايبدو عددها الأخير، عناوين الصحف من جديد.
عودة فرنسا إلى الشرق: عن قابلية الاستعمار والبديل المطلوب
تركيا ومصر وخيارات الإعمار في ليبيا
لماذا ترفض اليونان خفض التصعيد والتفاوض مع تركيا؟