بعد إجهاض انتفاضات الربيع العربي شددت غالب الدول العربية قبضتها على الشأن الديني برمته، وها هي تُمعن في إحكام وفرض هيمنتها عليه بعد اجتياح حمى التطبيع المنطقة، والذي دشنته دولة الإمارات العربية عبر تطبيع علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي الذي أُعلن عنه في 13 من الشهر الماضي.
ووفقا لمراقبين فإن الأنظمة العربية ستعمل على إعادة تشكيل التدين في مختلف مستوياته الرسمية والشعبية بما يتواءم مع مرحلة ما بعد التطبيع، من خلال تسويق خطاب ديني يخول أولياء الأمور حق إجراء تلك الاتفاقيات مع دولة الاحتلال، عبر استدعاء النصوص الدينية التي تخدم تلك التوجهات وتسعف في تسويقها وتبريرها.
وكان لافتا في هذا الإطار ما تحدث به إمام وخطيب الحرم المكي، عبد الرحمن السديس في خطبة الجمعة الماضية، عن بعض أحوال الرسول عليه الصلاة والسلام في تعامله مع اليهود بأنه "عامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم، وأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وأحسن إلى جاره اليهودي مما كان سببا في إسلامه"، وهو ما أثار جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصفه كثيرون بأنه يمثل خطابا دينيا يمهد للتطبيع مع إسرائيل.
وتضمنت خطبة السديس الأخيرة، إشارات واضحة للإحسان إلى اليهود ومعاملتهم معاملة حسنة، وهو ما عدته الكاتبه الأرنية، إحسان الفقيه بمثابة "إعلان مضلل، ظاهره التسامح، وباطنه الترويج لجريمة التطبيع، تلك هي زبدة الحكاية" وفق تعبيرها.
وفي السياق ذاته يشير باحثون إلى أن الأنظمة العربية قد تتمكن من تشكيل خطاب ديني رسمي يسّوغ سياساتها التطبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي، ويسارع إلى تقديم الأسانيد الدينية لها عبر مؤسسات الفتوى الرسمية، ومن على منابر الوعظ والخطابة المختلفة التي باتت تتحكم بها بصورة شبة تامة، وبشكل مباشر، لكن السؤال المثار على نطاق واسع: إلى أيّ مدى ستنجح في إعادة تشكيل أنماط التدين الشعبي المؤيد لسياساتها التطبيعية؟ وما هو نسق التدين المتوقع صياغته وإشاعته بعد محاصرتها للحركات الدعوية المنظمة، وإسكاتها لكثير من الشخصيات الدينية المؤثرة؟.
في إجابته عن الأسئلة المثارة، قال الباحث المصري في التاريخ والحضارة الإسلامية، محمد إلهامي "لا أريد التهوين من تلك التوجهات والمحاولات، ولا إثارة أمل كاذب بأنها لن تفلح، فربما تفلح جزئيا أو كليا لزمن قد يطول أو يقصر، فالإمكانات المرصودة لها في غاية الضخامة، وتبدو استجابة الحركات الإسلامية والعلماء والمصلحون أقل مما يستحق الوضع من الخطورة".
وأضاف لـ"عربي21": "وقد رأينا بالفعل عبر تجارب تاريخية نجاحات خطيرة لسياسة طمس الدين مثلما جرى في تركيا وتونس، ومثلما برز في مصر في الستينات والعراق زمن البعث وليبيا زمن القذافي وإيران زمن الشاه وغير ذلك، ولا يزال يتغلغل في العديد من الدول العربية نفس علماني قوي، كما في الأردن والجزائر والمغرب، وكما يبدو الآن في الإمارات والسودان والسعودية"، لافتا إلى أن "نجاح هذه الخطط رهين بقدرة المسلمين على التصدي والمقاومة، ورهين كذلك بكثرة الذين يقفون أمام هذه الموجة الجديدة والعاتية".
وعن نسق التدين الذي تسعى الأنظمة لصياغته وتشكيله بعد محاصرة غالب الحركات الدعوية المنظمة، والشخصيات المستقلة، أشار إلهامي إلى أن "مراكز البحث الغربية لا تبخل بالإجابة عن هذا السؤال، إذ إن العديد من التقارير والبحوث الصادرة في الفترة الأخيرة تريد الترويج لحالة من التدين المهادن الطيع الذي لا يثير أزمة مع هيمنة النظام العالمي التي هي الأب الروحي والجسدي للنظم المحلية الحاكمة".
وتابع: "لهذا فإنهم يتحدثون عن دعم الصوفية لا بمعناها التربوي الروحي، بل بمعناها السلبي المنصرف عن شؤون الدنيا والمستسلم لرغبة الحكام وشرعنتها، كما يتحدث آخرون عن النسخة المدخلية السلفية التي تجعل أصل الأصول طاعة ولي الأمر، ولا تتردد في مناقضة أصول الدين تحقيقا لهذا الأصل، بما يجعلها عملية تعبيد الناس للحكام".
من جهته لفت الكاتب والباحث المغربي في العلوم السياسية، عبد الرحمن الشعيري منظور إلى أن "الأنظمة العربية تسعى في هيمنتها على الشأن الديني إلى أن تكون وفية لمنطق الاستبداد والتغول السلطوي في احتكار كل مجالات فعل المجتمع الأهلي في التدين والفكر والعمل المدني وتوظيفها بما يخدم أجندتها السلطوية في احتكار الحكم والثروة".
وتابع: "وبما أن الخطاب الديني لا زال يتمتع بحضور قوي في المجتمعات العربية والإسلامية، فالأنظمة الحاكمة سعت دوما إلى احتكاره ليوافق نزوعها الاستبدادي، واليوم تريد بعض الأنظمة أن توظفه لتبرير تطبيعها مع الكيان الصهيوني المحتل".
وردا على سؤال لـ "عربي21" حول نسق التدين الذي تروم الأنظمة صياغته وترويجه، أوضح منظور أنها "تروم عبر سياساتها القمعية تجاه الحركات الإسلامية، والشخصيات العلمائية المستقلة، ومن خلال تدجينها لمؤسسة المسجد والعلماء والتعليم الديني إلى صياغة (إسلام فردي خامل)، يعيشه الإنسان المسلم بعيدا عن القيم القرآنية والنبوية التي تحث المسلم على أن يعيش دينه في كافة مجالات الحياة".
وأردف "بينما تريد الأنظمة الاستبدادية (إسلاما رسميا) متصالحا مع الاستبداد وحتى الاحتلال راضٍ بهما، مطمئن لفتاوى علماء السلاطين الذين يدورون مع السلطان حيث دار طلبا للماه والجاه".
ورأى منظور أن "معظم الأنظمة العربية عملت بعد حصول دولها على (الاستقلال) على نهج سياسات احتكار الشأن الديني، وشلّ مؤسساته ورغم ذلك برزت الصحوة الإسلامية، وتطورت إلى أن ولجت بعض تنظيماتها إلى دوائر الحكم والسلطة رغم شدة القمع والحصار بعد الموجة الأولى من انتفاضات الربيع العربي".
وعن مدى نجاح السياسات الرسمية في ترويج النسق الديني الذي تسعى لإشاعته في المجتمعات، استبعد الباحث السياسي، المهتم بالشأن الديني، عبد الرحمن منظور "تمكن الأنظمة السلطوية من إنجاحها نموذج (التدين الفردي الخامل) المتعايش مع السلطوية والاحتلال لعدة أسباب، من أبرزها: طبيعة الدين الإسلامي في أصليه القرآن والسنة التي ترفض التعايش مع حياة الذل والطغيان والاحتلال وتنشد دوما حياة الحرية والإيمان".
وأضاف "كما أن تطلع الشعوب العربية والإسلامية للحياة الكريمة في ظل الحكم الراشد، وفي كنف التدين القائم على الإيمان والفكر والدعوة في قطيعة مع (الإسلام الرسمي) للأنظمة المستبدة بسلفيتها وصوفيتها ووعاظها".
وفي ذات الإطار أوضح الإعلامي المصري، الباحث في الشأن الديني، عبد القادر وحيد أن "جدلية السلطان والفقيه قديمة جدا، منذ القرن الهجري الأول، بداية باقتراب الإمام الزهري من بني أمية ودخول الإمام أبي حنيفة على أبي جعفر المنصور، وتولي تلميذه أبو يوسف منصب قاضي القضاة".
لكن الفارق بين القديم والحديث، تابع وحيد حديثه لـ"عربي21" يتمثل في "رفض القديم لعملية التماهي التام مع السلطة، وإن حقق مكاسب شخصية أو دنيوية، فالقديم على سبيل المثال كان يرفض الازداوجية كالزهري اقترب من السلاطين، لكنه رفض أعمال الوليد الفاسق، وكان سببا في التحريض عليه من قبل من سبقه من السلاطين، وكذلك قصة أبي حنيفة في رفض تقلد القضاء، وجلده بالسياط بالرغم من أنه كان يحضر مجالس أبي جعفر المنصور".
أما واقع العلاقة بين العلماء والسلطة في وقتنا الحاضر، فبحسب وحيد "ثمة ازدواجية غريبة، وعدم اتساق ذاتي ففي الوقت الذي ترى فيه بعض السلطات أن الصحوة صورة من صور الرجعية، وتلاحق من يمتثل لنصوص شيخ الإسلام ابن تيمية، ومعتنقي مذهبه وطريقته، تجدها تغض الطرف عمن يقول بذلك، ويستدل بأقوال ابن تيمية، طالما أنه ينافح عن ولي الأمر".
وتابع: "في القديم كان هناك فاصل واضح بين ولي الأمر المعبر عنه في كتب النظام السياسي (من يحفظ بيضة الإسلام)، وبين ثوابت الدين، فمع امتثال العلماء قديما لطاعة ولي الأمر إلا أنهم لم يتطرقوا إلى العبث بأصول الدين، حيث كان العلماء وآراؤهم في ذلك الوقت بمثابة مدارس رقابية على الحاكم".
وواصل: "وفي حالة تعارض الفتوى مع السلطة، كان لا يتم التماهي مثلما رفض الإمام مالك فتوى عدم وقوع طلاق المكره، لتوظيفها سياسيا في توثيق البيعة لبني العباس، وهو ما وقع فيه التيار المدخلي حاليا (وغيره بالطبع) الذي تحول من دور رقابي إلى دور التماهي التام مع السلطة"، على حد قوله.
بدوره رأى الأكاديمي والباحث المغربي في الفكر الإسلامي، حفيظ هروس أنه "في ظل الصراع على الشأن الديني، فقد سعت الأنظمة السياسية العربية إلى محاولة السيطرة على الشأن الديني، وإعادة هيكلته وفقا لتصور معين يخدم مصالحها، فالمغرب مثلا عمل على إعادة هيكلة الحقل الديني بشكل شامل عقب تفجيرات 16 أيار (مايو) 2003 الإرهابية المرتبطة بتداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001".
وأضاف: "وذلك بمقاصد معلنة ألا وهي مكافحة خطاب التطرف، وتحصين الهوية الدينية، وأخرى مضمرة تتمثل في تنظيم الشأن الديني بما يكفل للدولة التحكم فيه، مع محاولة سحب البساط من تحت أرجل التنظيمات الدينية عن طريق إبراز الشرعية الدينية للنظام من خلال جعل الاهتمام بالشأن الديني حكرا على مؤسسة إمارة المؤمنين".
وأردف: "وكذلك يمكن ملاحظة هذا الصراع في مصر بين الأزهر والنظام المصري الذي طفا على السطح عقب الانقلاب، والذي كان آخر مظاهره مشروع قانون دار الإفتاء ومحاولة نقل تبعتيها إلى الحكومة بدلا من الأزهر بقصد التحكم فيها بعيدا عن الهيبة الدينية لمؤسسة الأزهر ومواقف علمائه".
وواصل هروس حديثه لـ"عربي21" بالقول: "كما أن الأنظمة العربية تحقق هيمنتها على الشأن الديني من خلال تحكمها في المساجد، ومؤسسات العلماء والفتوى، وكذلك التعليم والإعلام الدينيين، وغرضها من ذلك تحقيق الكثير من الأهداف، منها ما قد يكون ذا أبعاد مقبولة مثل الحفاظ على الصبغة المحلية للتدين تحقيقا لوحدة المجتمع، كالتأكيد على ثوابت التدين المغربي التاريخي: العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، وسلوك الجنيد في النموذج المغربي لإصلاح الحقل الديني، وأيضا مواجهة خطاب التطرف والعنف".
وتابع حديثه مستدركا: "لكن العملية تنطوي أيضا على أهداف خاصة لهذه الأنظمة تتمثل في محاولة تطويع الديني لصالح السياسي، مثل استعمال المؤسسات والفتوى الدينية لتسويغ القرارات السياسية للأنظمة العربية، وقد رأينا ذلك واضحا مؤخرا في بيان منتدى تعزيز السلم في دعمه لخطوة دولة الإمارات في تطبيعها مع الاحتلال الإسرائيلي"، مشيرا إلى أن "نموذج التدين الذي تحاول الأنظمة صياغته وتكريسه من خلال هيمنتها على الشأن الديني يمكننا وصفه بـ"التدين الرخو".
وبيّن هروس أن معالم ذلك التدين تتجلى في الاهتمام بالجانب الروحي في الدين، وترك الاهتمام الديني بالجانب السياسي من قبل الجمهور، وهذا ما يفسر إلى حد ما تشجيع الطرق الصوفية، وتبني خطاب الاجتهاد الديني السائل الذي لا يقف عند حدود الثوابت المعروفة بل يتعداها، مع محاولة استغلال المؤسسات الدينية الرسمية لتسويغ السياسات والقرارات العمومية عند الحاجة".
وختم حديثه مقللا من "قدرة الأنظمة العربية على تكريس هذا النموذج من التدين بشكل كامل على المدى البعيد، لتدني ثقة الجمهور في المؤسسات الدينية الرسمية من جهة، والتي غالبا ما يُنظر إليها باعتبارها قنوات دينية لتمرير السياسات الرسمية وتسويغها، ولتعدد نماذج التدين المتاحة في (سوق دينية) مفتوحة، من جهة أخرى، والتي أتاحها الانفتاح الإعلامي الكبير، في ظل تعدد وسائل الاتصال، ما يجعل من هيمنة الدول على وسائل التأثير الدينية أمرا مستحيلا".