في حالات قليلة تتطابق
الوطنية مع
القومية، بمعنى أن يشكل المنتمون لدولة أبناء قومية واحدة، وفي أغلب الحالات تتشكل الدول من خليط إثني يجمعهم عقد اجتماعي يحفظ مصالحهم ويراعي اختلافاتهم، وفوق هذا وذاك قانون يحميهم من التمييز والاضطهاد، وخاصة من ينتمون للأقليات العرقية والدينية.
التعايش بين الإثنيات والطوائف تبدو مسألة بديهية في زمننا، حيث تجاوزت غالبية الأمم والشعوب الصراعات العرقية وانخرطت في ترتيب شؤونها في إطار الدول التي تنتمي لها، واندمجت مع أقرانها ضمن الانتماء الوطني العام، وذابت هوياتها الفرعية لصالح الهوية الكبرى. فانتهت على سبيل المثال ظاهرة الصراع الكاثوليكي- البروتستانتي في أوروبا، منذ صلح وتسفاليا في القرن السابع عشر، أما استمرارها في بريطانيا حتى وقت قريب فكان تعبيراً عن رفض الإيرلنديين (الكاثوليك)، للاحتلال البريطاني (البروتستانتي).
في المقابل، يبدو المشرق العربي وكأنه ينتفض ضد الوطنيات التي انخرطت فيها مكوناته ضمن دولة ما بعد الاستعمار، فأينما كانت هناك فوضى، أو لنقل بلغة أدق أينما وجدت حرية للاختيار في المشرق، نجد أن المكونات تذهب باتجاه التفكّك والتخلص من الصيغ القديمة التي ربطتها ضمن الدول التي كانت تتبع لها. ومن النادر وجود عكس هذه الحالة، أي اندفاع المكونات باتجاه الحفاظ على الإطار العام (
الدولة) الذي انطوت هذه الشعوب ضمنه لسنوات وعقود طويلة.
ويبدو أن الاستثمار في عمليات الدمج الوطني التي استثمرتها مؤسسات الدول في المنطقة، لم تؤد لنتائج مهمة، بل على العكس شكّلت أحد محركات التسريع بالتفكّك والتخلص من الانتماء للدولة، وكأنه عبء ثقيل يراد نزعه عن الكواهل، أو عار تسارع المكونات إلى مسحه مرّة واحدة وللأبد.
وإلى حين تحقيق هذا الهدف، يتم اللجوء إلى الهويات الضيقة (العرقية والطائفية وحتى العشائرية) للتعريف بالنفس. واللافت أن جميع المكونات، بما فيهم الأكثريات التي تشكّل غالبية المنتمين للوطنية، يشكون من مظلوميات تعرضوا لها نتيجة اشتراكهم في وطنية واحدة مع الآخرين. فكل مكّون ينظر لنفسه على أنه الأكثر رقيّاً وتقدماً، ويستحق أفضل مما ناله في عهد الدولة السابق، ويعتقد أن القادم، وعندما تكون الوطنية صافية ومطابقة تماما للعرق والطائفة والعشيرة، سيكون أفضل بما لا يقاس من الأوضاع السابقة.
ولكن إلى أي مدى يقترب هذا المنطق من الحقيقة؟ تثبت الوقائع أن المشكلة ليست في اندماج المكونات ضمن وطنية واحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة في عصرنا، في سويسرا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها. ففي جميع هذه الأمثلة سقطت الانتماءات الضيقة، وربما اندثرت حتى في وجدان أبنائها، لأنها باتت عبئاً على أصحابها، وفائضاً لا لزوم له في زمن التشابك والترابط المعقد والانفتاح العالمي، اقتصاديا ومعرفياً، ولم يعد الفرد يستسيغ أي قيود تؤثر على تقدمه وملاحقته لتطورات العصر. ومواطنو هونغ كونغ خير مثال على ذلك، فقد فضلوا الانتماء لبريطانيا على العودة لوطنيهتم الصينية.
في المقابل، ثمّة أمثلة كثيرة تبرهن على فشل الانتقال من الوطنية الأوسع إلى الانتماء الضيق القائم على هويات صغرى، حيث وجدت المكونات نفسها تغرق في الأزمات ذاتها التي حفّزتها على الهرب مما كانت تعتقد أنه سجنها الكبير؛ إلى ما اعتقدت أنها واحة حريتها وكرامتها.
أين المشكلة؟ منذ بواكير عصر النهضة، تنبّه فلاسفة التنوير (جان لوك، وتوماس هوبز، وجان جاك روسو) إلى أن الاجتماع البشري، حتى يكون ناجحاً، يحتاج إلى عقد اجتماعي يضمن حقوق الحاكم والمحكوم، والمساواة لجميع المواطنين. ومنذ ذلك الوقت ظهر مفهوم المواطنة الذي يعني التساوي بين الأفراد، بعيداً عن انتماءاتهم الصغرى، وسيادة القوانين والتأكيد على مبادئ الشفافية والمساءلة، ووضع الهياكل والآليات اللازمة لتطبيق هذه القيم على الحاكم والمحكوم على السواء.
في جميع البلدان، في المشرق والمغرب، تتضمن الدساتير شعارات
الحرية والمساواة. فالحرية مثلاً "حق مقدس" في الدستور الذي صاغه حافظ الأسد لسورية، وحينما هتف أبناء الشعب السوري للحرية، أبادهم النظام الحاكم بمختلف صنوف الأسلحة، بما فيها الكيماوية. فالمشكلة إذن في إجبار الحاكم على الخضوع لنصوص الدساتير ومواد القوانين.
ومصطلح الحاكم يشمل جميع أدوات
السلطة وممثليها، لإحداث توازن بين السلطة والشعب، إذ طالما بقي ميزان القوّة مائلا للسلطة ستبقى الوطنية متصدعة، وسنجد دائماً من يهربون من رمضاء تسلّطها إلى البدائل الأخرى، حتى وإن كانت ناراً لاهبة.
twitter.com/ghazidahman1