يشار باستمرار إلى
السلفية المعاصرة باعتبارها غطاء الاستبداد
الديني الأثير للحكم في عالمنا العربي، وبمثل هذا الاستهسال يجري اختزال السلفية كلّها في الجامية/ المدخلية، دون ملاحظة كافية للتمايزات داخل الحالة السلفية، ولأدوات أخرى، تتغطى بها سياسات الحكم الأكثر شرّا ورادءة وترويعا، ثم تعيد استخدامها في الدعاية، وفي الفضاء العام، وعلى نحو تلتقي فيه الاتجاهات الدينية المتناقضة، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في سياسات الحكم
الإماراتي في
توظيف الاتجاهات الدينية المتعددة، التي يفترض فيها التناقض أو الاختلاف، ولكنها تؤول إلى التطابق التام في تأييد السياسات الإماراتية.
تمكنت السياسة الإماراتية من إجراء معالجة جوهرية للتيار الجامي/ المدخلي بتحويله من مجرد أداة خطابية تستخدم غطاء دينيّا، ووسيلة هجومية واستخباراتيّة، على التيارات الإسلامية الحركية، إلى أداة مسلحة، في ليبيا واليمن، بل وإلى استقطاب جهاديين سابقين وتوظيفهم في الإطار الجامي/ المدخلي. وفي حين تعادي الجامية/ المدخلية التصوف، وتعدّه في الجملة ضربا بدعيّا متلبّسا بممارسات شركيّة، فإنّ شخصيات شهيرة منسوبة للتصوّف تصطف في الخندق الجامي/ المدخلي نفسه،
لتأييد سياسات الإمارات، وسياسات دول الثورة المضادة عموما، وللقيام بدور هجومي مضاد على الجماعات الإسلامية التي تستهدفها الإمارات.
تحضر هنا بقوّة شخصية علي الجفري، المنظّم الرئيس
لمؤتمر الشيشان، الذي أريد به، كما قال منظّموه والمشاركون فيه، تحرير مفهوم أهل السنة والجماعة وتحديد المنتسبين إليه. وبينما استقطبت الإمارات شخصيات علمية رفيعة ترتكز إلى المدونة الأصولية التراثية،
كالشيخ عبد الله بن بيّة، فإنّها فتحت أقنيتها التلفزيونية لطرح حداثي مناقض بالكامل لجوهر المعطى الأصولي التراثي، كما في استضافتها التلفزيونة لمحمد شحرور، وتمويلها السخي
لمؤسسات ثقافية تهدف إلى إعادة تأويل الدين حداثيّا، كمؤسسة "
مؤمنون بلا حدود"، ولكن بما لا يمسّ منظومة الحكم الاستبدادي!
ثمّة أهميّة خاصة هنا لعلي الجفري، لكونه شخصية شهيرة ومنسوبة للتصوّف، يستدعي سلوكه العديد من علامات الاستفهام على
الصوفية المعاصرة، وعلى مصداقية ادعاء الانتساب للمدونة التراثية ببعديها المذهبي الفقهي/ الكلامي، والصوفي، حينما تركّز هجومها، في تقاطع واضح مع الجامية/ المدخلية، على التيارات الحركية، وتسفر عن مكنون عميق من الكراهية للتيارات الإسلامية الحركية، وبدعاوى من قبيل تلاعب الإسلاميين الحركيين بالدين، أو بفتحهم الباب للحداثيين لنسخ الدين، بتجاوزهم (أي الحركيين) للمدونة التراثية الأصولية، أو بإخضاعهم القضايا العلميّة والشرعية للمصلحة السياسية الخاصّة بجماعاتهم.
هذه الاتهامات تحديدا، يتلبس بها علي الجفري وعدد من الرموز الذين يندرجون في نشاطه، ممن يُخضعون المعطيات العلمية والرمزية الشرعية لمصلحة السياسي، ولو في سياق دموي إجرامي، هو في أحسن حالته ملتبس لمن يعاني قدرا من العمى في الوعي والبصيرة الأخلاقية. وفي هذا الصدد يمكن استدعاء حضور الجفري وعلي جمعة
بين يدي عبد الفتاح السيسي بعد جرائمه المتتالية من الانقلاب، فالمذابح، فاستباحة كرامة البشر في سجونه.
والحاصل، والحال هذه، فإنّ هذه الشخصيات التي تنتقد الحركة الإسلامية على طريقة بعض رموزها في تعاطي العلوم الشرعية، ومقاربة علاقة الديني بالسياسي، تتورّط هي في الأمر نفسه وبصورة أفحش، ولا يبقى لها من ادعاء الانتساب للمدونة التراثية، والأخلاق الصوفية، سوى الدعوى المتلفعة بالشعار، ومعارك ضد الحركيين والخصوم المذهبيين، لا تزعج طاغية، ولا يلتفت إليها عدوّ.
وهذا السقوط قد ينسحب على مجمل التيار المهموم بإحياء العلوم التراثية وإعادة الاعتبار للمدونة الفقهية المذهبية، ما دام أمثال المذكورين من المعظّمين لدى هذا التيار، أو يغض النظر عنهم، لاعتبارات مصلحيّة، تحيل الأمر إلى حزبية صرفة، تؤخذ، ويا للمفارقة، على الحزبيين الإسلاميين الذين لا ينكرون حزبيتهم!
يُلاحظ، حين النظر إلى إجابة علي الجفري عن سؤاله عن تطبيع دولة الإمارات، ممولته هو ومؤسسته، أنّه أحال أمر
التطبيع مع العدوّ إلى ولي الأمر جملة وتفصيلا، دون أيّ اعتبار للموقف الشرعي، وكأن فعل ولي الأمر تشريع في ذاته. فثمة مغالطة حين القول إنّ المعاهدات مع العدوّ من مسائل السياسة الشرعية التي أنيطت لولي الأمر وفق ما يظهر له من مصلحة، لأنّ الخلاف ليس في هذا، وإنما في جواز المعاهدة المتعينة، أو في تحقق المناط في المعاهدة المخصوصة بالحديث، وهذا فضلا عن عدم ضبط مفهوم ولي الأمر، ومفهوم المصلحة، التي تبدو مظلة واسعة يفعل تحتها "ولي الأمر" ما شاء، في حين ينتقد الجفري وأشباهه، بعض التيارات الإسلامية المعاصرة، لتوسعها في الفتوى استنادا للمصلحة.
وبينما اكتفى الجفري في بيان الموقف الشرعي بهذه الإشارة العابرة، فإنّه خصّص بقيّة بيانه لتأكيد ثقته بالإمارات، والثقة بمحمد زايد على وجه التحديد، والتنديد بـ"التنظيمات والجماعات المتطرفة"، التي يرفض ابن زايد "عبثها باستقرار بلاده"، متهما الجفري إيّاها بـ"الاستعار الموغل في الفجور في الخصومة دون مراعاة لأولويات دين ولا خلق ولا مبدأ"، بعد توالي "سقوطها سياسيّا وشعبيّا"، يقصد بذلك الإخوان طبعا. وأبدى حزنه من الحملات التي يشنها مطبعون سابقون على ابن زايد، متهما المطبعين السابقين بأنهم يهدفون إلى تثبيت حكمهم وتوسيع نفوذهم لا النظر في الحقّ الفلسطيني!
بالتأكيد يمكن تفنيد كلّ هذا الخطاب، لكن الأهم فيه من مغالطاته، هو أولا تحويل تطبيع ابن زايد سببا لمديحه والثناء عليه، ولهجاء خصومه، وثانيا تورط معمم منسوب للتصوّف في خطاب سياسي صرف ومكثف، لا للتعبير عن موقف أصيل له، بل لخدمة حاكم يضع يديه للتوّ في يد من لم يزل يسمه المعمم بـ"العدو الصهيوني"، وهو حاكم غارق للغاية في صراعات إقليمية، وحروب محمومة، وحملات مهووسة، هي في أحسن أحوالها، مرّة أخرى، ملتبسة لمن كان يعاني عمى في البصيرة والوعي الأخلاقي! هذا المعمم الذي يقاتل باسم الدين دفاعا عن مطبع وممول حروب أهلية، هو المنوط به تحديد مفهوم أهل السنة ومن ينتسب إليه! لكن ما دام الحاكم يمول مؤسساتنا ويحارب "الحركيين الأشرار" فلا بأس بتدنيس الدين لأجله! وما دام المعمم من مذهبنا فكل ذنب له مغفور!
فبعدما تكون فلسطين وأهلها مصلحة يقررها ولي الأمر، الذي هو ابن زايد حصرا، أو من ينحاز إليه الجفري، لأنّ الآخرين، بحسبه، يهدفون إلى تثبيت حكمهم أو توسيع نفوذهم، لا يبقى هناك أيّ معنى لحديثه عن رفضه التطبيع الشعبي، وتمسكه بالعداء للصهاينة، وبتراب فلسطين وأقصاها، فهذا ليس أكثر من ذرّ للرماد في العيون، قابل للتبخّر في حال رغب "ولي الأمر". وأمّا دعوته لشدّ الرحال للمسجد الأقصى، فلم يعد ثمّة شك أنها دعوة تطبيعية في جوهرها، ما دام المطبعون الجدد، وفي سياق الإعلان عن التطبيع، قد أعلنوا أن الإمارات ستكون ممرا لزيارة الأقصى، وهذا بصرف النظر عن أي
نقاش موضوعي لمسألة زيارة المسجد في ظلّ الاحتلال من حيث المبدأ.
علي الجفري، أو غيره من الأشخاص ليس مهمّا في ذاته، ولكنه يصلح نموذجا على أنماط متعدّدة من استخدام الحاكم للدين والمشتغلين فيه، وكيفيات هذا الاستخدام، وافتقار بعض التيارات الدينية للمصداقية حينما تتورط، ومن مواقع مخزية، وحدّ الغرق، في ما تعيبه على غيرها من جور على الدين والعلم لأغراض سياسية!
twitter.com/sariorabi