ب ـ المذهب المالكي في تونس: منجزات الماضي ورهانات الحاضر
عندما ننطلق من راهن بلدان المشرق الإسلامي ومغربه أو بين حال بلدان الربيع العربي وتونس وننظر بعين مقارنة فلا شك أننا سنتوقف عند الاستقرار النسبي الذي يميز دول المغرب وعند تعقد المشهد في المشرق. ولا يمكننا أن نرد ذلك إلى البعد الجيو ـ سياسي الناتج عن زرع الكيان الإسرائيلي في قلب الشرق وما خلف من التوترات فحسب. فالصراعات في اليمن والبحرين والمملكة السعودية والعراق وسوريا ولبنان ذات خلفيات مذهبية أو طائفية.
ولئن كانت البنادق تدوي أحيانا في المغرب، فلأسباب سياسية أو لزعامات سريعا ما يتم تجاوزها، أو على الأقل يُضمن "السلام البارد" كما هو الشأن في الحالة المغربية الجزائرية. ولنستثن الحالة الليبية الراهنة، فالمشهد أعقد مما يتاح لورقة كهذه. وإجمالا لم تصل لاختلافات إلى العنف الدامي الذي يستمر لفترة طويلة إلا حين تم اختراق ذلك الصفاء المذهبي، المالكي أساسا، المميّز لبلدان شمال إفريقيا من قبل مرجعيات فقهية تسرع إلى تكفير الدولة. حدث ذلك في العشرية الدموية الجزائرية مع عودة "المجاهدين الأفغان" المتأثرين بالمد الوهابي.
أما في الحالة التونسية التي ندرس فقد حدث ذلك بعد ثورة 2011 خاصة، بعد أن وصل المد الوهابي عبر وسائل الاتصال الحديثة وإثر تراخ أصاب أجهزة الدولة أيام الثورة. واليوم، في بلد الحرية والتطلع إلى الحداثة الحق أضحى التحدي مزدوجا. فمداره على كيفية المحافظة على الصفاء المذهبي في زمن التواصل والحرية والتفاعل ضمانا لوحدة البلاد ونأيا بها عن الاختلافات المذهبية المدمرة وعلى كيفية تجديد هذا المذهب حتى يسير مع الحراك الفكري بالإيقاع نفسه وحتى يستجيب لمتطلبات العصر.
1 ـ المذهب المالكي في إفريقية تفاعل مستمر مع الشأن العام
كان مذهب الأحناف هو السائد بأرض إفريقية في القرن الثاني للهجرة. ولم تخل الساحة من ظهور للمذاهب الشيعية والصفرية، والإباضية، والنكارية، والمعتزلة. وبفعل الرحلات الدراسية إلى الشرق لتلقي العلوم الشرعية ظهر فقهاء يتبعون مالكا وينشرون مذهبه. لنا أن نضع على رأسهم علي بن زياد التونسي (183ﻫ)، فهو أهم رواد هذه الحركة الفكرية. أخذته رحلة الدراسة إلى المدينة. فتلقى عن مالك الموطأ. ثم عاد فجلس للتدريس بجامع الزيتونة وجعل مدينة تونس قبلة طلاب العلم. وممن اختلف إلى درسه أبو عبد الله أسد بن الفرات قاضي القيروان. فقد تلقى عنه ثم أخذ الطريق إلى الشرق بحثا عن معرفة أعمق بالمذهب المالكي. وعند عودته اتخذ من القيروان مقراً له، واختلف إليه طلبة العلم من كامل المغرب والأندلس.
وتلقى الإمام سحنون عن ابن زياد بدوره، واختلف إلى مجلسه للسماع منه. واهتم بالتدريس كذلك وتولَّى القضاءَ وعمِل من خلالهما على ترسيخِ المذهب المالكي. وإليه يعود الفضل في إخراج المدونة التي تنسب إلى مالك على النحو الذي أخرجت عليه تهذيبا وتنسيقا وتبويبا.
لأن التحديات لا تفتأ تفرض نفسها يُطرح اليوم بفعل الهجرة والاختلاط بين الشعوب والأجناس والأديان في هذه القرية الكونية مواضيع مستجدة منها زواج المسلمة من غير المسلم مثلا أو زواج المسلم من غير الكتابية ومنها ملاءمة التشريعات للقانون الدولي على المستوى العالمي في ظل تبعية المسلمين للقوى الكبرى.
و"المدونة" نسخة منقّحة من الأسدية لأسد بن فرات، كانت مؤلفة على مذهب أهل العراق وأراد أن يعرضها على مالك ويؤلفها على مذهبه عند عودته من رحلته العراقية نحو الحجاز ولكن مالكا كان قد توفي. فذهب بها إلى تلميذه ابن القاسم في مصر فأجابه بما سمعه من شيخه مالك بقياساته وزياداته. وجعل يدرسها في القيروان وأصاب بها المكانة وعلو المقام. ولكنه لم يلتزم فيها أصول المذهب المالكي التزاما تاما. ورغم ضن أسد بها لشدة التنافس بين أتباع مالك، وصلت إلى الإمام سحنون فعاد بها إلى ابن القاسم ليستجلي ما غمض منها ويعيد تبويبها ويذيل أبوابها بالأحاديث والآثار.
رسخ المذهب المالكي بإفريقية إذن رسوخا دفعت نجم الدين الهنتاتي إلى أن يستغرب نجاح المذهب المالكي هناك لاختلاف البيئة والثقافة في مؤلفه القيم "المذهب المالكي بالغرب الإسلامي". ورده إلى كياسة مالك مع طلبته المغاربة. فقد كان يستدرجهم لمذهبه لينشروه في بلدانهم. ويذكر نماذج من حفاوته وفي مقدمة كتاب "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية" لأبي بكر عبد الله بن محمد مالكي التي وضعها بشير البكوش ومحمد العروسي المطوي نماذج أخرى تدعم أطروحة الهنتاتي.
ولكن العامل الأبرز في تقديرنا يعود إلى ما ورثه المالكيون عن شيخهم من موازنة بين مبدأ عدم الخروج عن الحاكم ومبدإ الأمر المعروف والنهي عن المنكر. فقد انشغلوا بالحياة السياسية وعملوا على نصح الأمراء، دون أن يتورطوا في التبعية لهم. وكانوا لا يترددون في نقد الحكام حين يجورون في أحكامهم أو يفرضون الجبايات المشطة، ذلك ما حدث معهم في عصري الأغالبة، والفاطميين. وكثيرا ما واجهوا المحن في سبيل صلاح حال الرعية بين تقتيل وتعذيب وحرق للكتب، ومنها المدونة، حتى تولى المعز بن باديس سنة 407هـ فعادت إفريقية إلى المذهب المالكي، وستستمر عليه إلى اليوم. وسيستمر معه التعاطي مع الشأن العام بإيجابية.
2 ـ واقع متحرك وتحديات متجددة:
لانتشار التعليم ولتأثره بالفلسفات المعاصرة انتقل العقل التونسي من تقبل الفقه "التقبل الهادئ السعيد" إلى التفكير فيه ومساءلته. وكانت أول مدارجه حدود سلطته. فتساءل إلى أيّ حد يمكن للنص الفقهي أن يتحوّل من أداة تطوّع النص المقدس لتحقيق مقاصد الشريعة من عدالةٍ وضمانٍ للكرامة الإنسانية في التعاطي مع الواقع، إلى نص مطلق منغلق متعال عن الزمان والمكان، أي إلى نص مقدس بدوره؟ وكان موقفه من مجلة الأحوال الشخصية ومن موضوع تعدد الزوجات فيها خاصّة أول تحد عملي. فبموجب الأمر المؤرّخ في 13 آب (اغسطس) 1956 تم إقرار هذه المجلة وكانت تتضمّن بنودا تتعلّق بالأسرة على غاية من الجرأة. وعلى جرأتها كانت مجددة من داخل المنطق الديني نفسه. فقد مثلت لائحة الأحكام الشرعية المنسوبة لشيخ الإسلام المالكي عبد العزيز جعيط وزير العدلية بتاريخ 19 حزيران (يونيو) 1949 مرجع لجنة إعداد هذه المجلة الأساسي. كما تم ترسيخ المؤسسات المالية الحديثة وتقنين الخدمات البنكية من تنزيل للمرتبات وخدمات مالية واقتراض بالاستناد إلى هذا الفقه. فكان المذهب المالكي في تونس يتعاطى بسلاسة مع تحديات العصر ومع مقتضيات الدين في آن. ومثل امتدادا لفقه إفريقية زمانا.
ولأن التحديات لا تفتأ تفرض نفسها يُطرح اليوم بفعل الهجرة والاختلاط بين الشعوب والأجناس والأديان في هذه القرية الكونية مواضيع مستجدة منها زواج المسلمة من غير المسلم مثلا أو زواج المسلم من غير الكتابية ومنها ملاءمة التشريعات للقانون الدولي على المستوى العالمي في ظل تبعية المسلمين للقوى الكبرى.
أما الموضوع الأكثر جدلا فيتعلّق بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة الذي وعد به الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في 13 آب (أغسطس) 2017 ووافق عليه مجلس الوزراء التونسي وكان يفترض أن يعرض على البرلمان لاحقا. فقد أثار جدلا في تونس. فأعلن البعض، وهم غالبا من خارج المنظومة الفقهية، أن لا ضير فيه وأنه يحقق مقصدا من مقاصد الشريعة. فقوانين الميراث كانت تستجيب لهذه المقاصد وتحققها قديما.
ولكن تغير السياق الحضاري عما كان عليه الأمر في بدايات الإسلام وحاجة الأنثى إلى المال لتدرس أو لتعيل نفسها أو تنفق على أسرتها تماثل حاجة الرجل اليوم. والعدالة التي هي الهدف الأقصى للشارع والفكر المقاصدي يقتضيان مراجعة أحكام الميراث، خاصة أنها ليست من "حدود الله" وفق المصطلح الفقهي وإنما هي من حقوق الناس ومن فقه المعاملات.
وأبدى الكثير من رجال الدين ترددا واضحا، انطلاقا من القاعدة الأصولية التي تعلن أن "لا اجتهاد مع نص" ولكن أعلنوا في الآن نفسه أنهم سيوصون بالمساواة بين أبنائهم ذكورا وإناثا، فيما رفضت طائفة ثالثة، ممثلة خاصّة في أساتذة جامعة الزيتونة، المشروع برمته. وطرح آخر تبعا لذلك جدلا حول الحدود بين صفة الأكاديمي والفقيه. ولكن عموما لم يخرج الأمر عن النقاش الفكري الهادئ ولم تصل الردود إلى العنف الذي واجهت به أطراف من خارج المجتمع التونسي هذا المشروع. فقد ورد في بيان مفتي مصر شوقي بتاريخ 26 ـ 08 ـ 2018 أن "لا اجتهاد في النصوص التي هي قطعية الدلالة قطعية الثبوت بدعوى تغيّر السياق الثقافي الذي تعيشه الدول والمجتمعات الآن" وأن "المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة أمر مخالف للشريعة الإسلامية وإجماع العلماء على مر العصور، لكون تقسيم الميراث في هذه الحالات قد حُسِمَ بآيات قطعية الثبوت والدلالة".
واعتبر، هذا البون بين نبرة الصوت في تونس وخارجها، مؤشرا في حد ذاته على مرونة الفقه المالكي في تونس اليوم وعلى بعده التداولي وحرصه على مصالح العباد. وأغلظ بعض آخر في القول وشكك في سلامة العقيدة في هذه الربوع.
3 ـ استنفار فكري للحث على الاجتهاد:
بعيدا عن المرجعيات الفقهية انبرت أقلام أكاديمية كثيرة تحث على الاجتهاد في مثل هذه المسائل. وهي الأقلام التي تنتسب إلى المدرسة التونسية للدراسات الحضارية والتي تفيد من مفهوم النصّ وشراكته مع السياق والتداول لإنتاج المعنى في المدارس اللسانية الحديثة لتجديد التفكير الديني.
نذكر على سبيل المثال عملية الاستقراء التي قام بها الساسي محمد الضيفاوي في مقالة بعنوان "الاجتهاد المالكي بين سلطة النقل وحدود العقل" الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. فمن خلال تتبعه لمرجعيات مالك واجتهاداته وأطروحاته، يقدّر أن الموطأ "يقر بحقيقة مهمة ومفصلية مفادها أنّ النص يستجيب لحاجيات الواقع ولا يتعارض معه، وأنّ العقل آلية من آليات إدراك خفايا النصّ وتدبر معانيه، وهو ما يحيل بوضوح إلى أنّ التكامل حاصل بين النصّ والواقع والعقل، هذا الذي ينهض بمهمتين أساسيتين في الدين الإسلامي حسب الإمام مالك هما النظر في مراد الشارع من خلال مصدري القرآن والسنة النبوية، ثم النظر في الأدلة الشرعية ومناهجها على نحو الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.."
ويضيف: "إن كل هذه الشهادات تؤكد أن مالكا وظّف العقل إيمانا منه بأنّ طبيعة النصّ المؤسس بما يحمله من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ومجاز وإعجاز وإيجاز وتقييد مطلق وتخصيص عامّ وبيان سبب النزول المكّي والمدني، كلها من الأطروحات المتواترة في القرآن، وهي تفسح المجال إلى قراءات متباينة وتأويلات عديدة ومختلفة لا يمكن أن نفهم مراد الشارع منها إلا إذا وظفنا العقل، يضاف إلى ذلك إيمان مالك بأن واقع الإنسان هو واقع متغيّر، ولحظة المرء لا تستقر على حال، والإحاطة بالواقع ومستجداته ضرورة نقلية وعقلية ووجودية".
وانطلاقا من الانفتاح على المذاهب الأخرى، ونبذ الاختلاف والتفرقة ومن مراعاة المصالح، وسد الذرائع، وقابلية التطور والتجديد، ظل المذهب المالكي يتفاعل مع العصر التفاعل الإيجابي فيكفل الوحدة العقدية للدولة ويعطيها مقومات استمرارها، واستقرارها. وحتى يتواصل هذا الدور لابد، في تقدير الباحث، من دوام المدارسة والمراجعة والتجديد تغييرا للتصورات والممارسات في آن. فـ"ـلا يتسنى لنا أن نقدم على أية مبادرة نقدية، إلا إذا التزمنا بمقاربة واضحة المعالم تراجع المؤسسة التعليمية من رياض الأطفال إلى البحث الجامعي والأكاديمي والدرس الحضاري... وتنقية التراث الإسلامي من الحواف والإضافات التي ليست منه".
إقرأ أيضا: في الفقه المالكي والواقع، الحالة التونسية أنموذجا (1 من 2)