أعيد الاعتبار لمصطلح "الاستعمار" في الأدبيات الفلسطينية وغيرها، خلال السنوات الأخيرة، لوصف وتعريف حالة السطو الصهيونية على فلسطين، خاصة بعد ظهور تجليات فشل مسار أوسلو.
واكتشف كثير من الباحثين أن الترجمة العربية لـ"الكولونيالية" على أنها "استعمار" (من التعمير والعمران) إنما هي ترجمة مشوّهة ومحتشمة جدا، لأن الظاهرة الاستعمارية لا تعدو أن تكون حالة سطو ونهب ولصوصية واستباحة للروح والمال والعرض، وهي الحالة المعرّفة التي يطلق عليها في الفقه الإسلامي مسمى "الصائل"، أي المعتدي الذي يستبيح كل شيء.
إن السرقات الأكثر فداحة في التاريخ هي تلك التي تتم بسرية وتكتم وببرود أعصاب وبتخطيط ذكي، وبنوع من الاحتشام "الأخلاقي" ومقتضياته من الذلاقة والنعومة والحجة والإقناع. وإذا كان هذا السلوك اللصوصي في أعلى درجاته ينطبق على شيء، فإن نموذج السطو الصهيوني على فلسطين هو ذلك النموذج الأشد وضوحا!!
فقد سعت المنظمة الصهيونية منذ بداياتها إلى الفوز بفلسطين عبر "القانون العام" الذي تحميه الدول الكبرى، فكان "وعد بلفور" (1917) أولا، ثم جاء "قرار التقسيم" (1947) ثانيا، ثم جاء قرار"242" (1967) ثالثا، ثم تلت ذلك حقبة من الانهيارات (كامب ديفيد/ 1977-1979"، فاتفاق أيار/ 1983، فاتفاق أوسلو/ 1993، فاتفاق وادي عربة/ 1994، فموريتانيا لاحقا، وأكثر من نصف دزينة من الدول العربية التي أقامت علاقات ما دون التبادل الدبلوماسي الكامل)!!
والمتتبع لهذا المسار يجد أن اللص الصهيوني كان يلجأ الى التورية والغموض وشتى ألوان الكذب والبهتان، والالتواء وحشد الحجج والمصادمة للحقيقة والالتفاف حولها من أجل استلال أجزاء من الشرعية.
كما كان سلوك الدول الأوروبية والغربية الممالئ لهذه الحالة اللصوصية الموروثة عنها، يتمتع أيضا بدرجات عالية من "الكولسة" والالتفاف وعدم الوضوح.
انسحب هذا أيضا على سلوك الأنظمة العربية، بخاصة ما بين 1948-1967، حيث كانت تضطر إلى الإعلان على الملأ عن معاداتها الصريحة غير القابلة للاستئناف، لأن غير ذلك كان يعني الاغتيال المعنوي، وربما الجسدي في كثير من الحالات.
بعد هزيمة 1967 أخذ السلوك المخاتل يطغى على الممارسة السياسية والصراعية عربيا وفلسطينيا، وأصبح السياسي الفلسطيني ومن قبله العربي يقول الشيء في العلن، ونقيضه في السر. وقد سجلت المذكرات المتكاثرة هذه الظاهرة بجلاء.
ثم دخلنا مع زيارة السادات المشؤومة للقدس مرحلة "طق شرش الحياء"، بإقدامه على ارتكاب "الكفر السياسي"، وبما أطلق عليه "كسر الحاجز النفسي" و"حطّ الواطي" في "كنيسهم". وكانت الصدمة التي أحدثها والرهبة التي انتهت بمقتله، وهو في موكب أبّهته، قد ردعت بقية المخاتلين عن الإقدام على ما أقدم عليه.
لكن عمليات الترويض والتدجين والتهيئة لم تتوقف، واستخدمت النار في الحروب العربية- الصهيونية لتفعل فعلها على هذا الصعيد، فكان يعقب كل مواجهة مسار سياسي تراجعي عند العرب والفلسطينيين. وبعد حرب 1982 أصبحت وجهة القيادة الفلسطينية، بدعم كبير من الأنظمة العربية "المعتدلة"، باتجاه مزيد من "قلة الحياء". وهنا عقدت عشرات بل مئات اللقاءات الخلفية في حالة من العلاج السلوكي للفلسطيني صاحب الحق المباشر، كي يملك الشجاعة الكافية للحظة الكشف عن العورات، فكانت أوسلو، وكان "طق شرش الحياء" الذي لا يزال يشكل جرحا غائرا في السيكولوجيا الفلسطينية، خاصة بعدما قطعت سلطة أوسلو أشواطا في "الوقاحة" وقلة الحياء والتعاون الأمني مع العدو بأقل من مرتبة "وكيل غير حصري".
وإنه لمما يندى له الجبين أن يقف هذه الأيام أحد رموز العمل الأمني الوكيل (عضو لجنة فتح المركزية) جبريل الرجوب في موقع النقد والتجريح لحالة كشف العورات
الإماراتية، وهو وليس غيره، من كان يدور بهم على جميع الدوائر الصهيونية في القدس وتل أبيب المحتلتين!!
منذ سنوات طويلة، هناك تقارير مؤكدة عن وجود علاقات سرية حميمة تربط -خاصة - دول الخليج بالكيان الصهيوني، وقد أخبرنا نتنياهو في أكثر من مناسبة وبنوع من الاغتباط الشديد عن تلك العلاقات.
يقود الكيان الصهيوني منذ 2011 حالة "الثورة المضادة" بأدوات عربية، وأصبحنا نعلم ومن دون حاجة إلى مزيد من البراهين؛ أن ما يزيد على نصف الدزينة من الدول العربية "المعتدلة" إنما هي في الحقيقة "
إسرائيلية" التوجّه والسياسات، وتتم إدارتها من قبل عملاء مكشوفي الوجهة، ويتميزون بعيون بيضاء وقحة وخؤونة، من طراز محمد دحلان (أحد اهم خدام الأمن الإسرائيلي الوكيل الذي أنتجته أوسلو، والذي أشرف مع أمثاله من الأسماء الخائنة المعروفة، وغير المعروفة على صياغة مواقف وسياسات هذه الدولة أو تلك).
لا نحتاج لكثير من الذكاء كي نكتشف أن سياسات دول المحور الصهيوني الفتنوية في المنطقة، هي سياسات صهيونية محضة في المظهر والجوهر، وبالأخص إذا ما تتبعنا سياسات دولة الإمارات العربية في سني ما بعد 2011 في كل من اليمن، وسوريا، والعراق، ومصر، وليبيا، والبحرين، وقطر، وتونس، وفلسطين، والسودان، وإثيوبيا.. وغيرها، وهي سياسات صهيونية صرفة!!
في العامين الأخيرين، ومع إطلاق "صفقة القرن"، شيّد الإعلام المتصهين موجة عالية وغير مسبوقة من الوقاحة والضعة الفضائحية وقلة الحياء، والتباهي بالتخلي عن القدس وفلسطين والتنكر لقضيتها، والدفاع عن الصهيونية وعن حججها الزائفة والتبشير بالتطبيع، بل والقيام بزيارات "ثقافية" متبادلة!!
كان ذلك نوعا من التمهيد للانتقال إلى العلاقات العلنية الفاضحة التي كان "اتفاق أبراهام" أحد أهم ثمارها المشؤومة. والسؤال: ما الذي يجعل الوقح يغدو وقحا، ثم يتمادى أكثر فأكثر في الوقاحة وقلة الحياء؟
من الناحية السيكولوجية؛ فإن حالة الترف والتدليل المرضي (خاصة لمن هم في سن البلوغ أو تحته) تدفع بصاحبه إلى قطع مسافات في الوقاحة وقلة الحياء وكسر حاجز الخجل، بالإضافة إلى عامل انغماس أهل الانحراف في نوع من الممارسات المنحرفة التي تصبغ صاحبها فتمنحه درجة التلبد وفقدان الشعور الفطري.
إن الوقح الذي لم يعد يحتاج إلى شيء يستر به عورته، إنما وصل إلى هذه الدرجة لأنه لم يجد في مسار الخرافة أي عوائق تضرب على يديه لتردعه. لقد غدا لا يخشى من شيء، وأقام تطبيعا مع العار والفضيحة اللذين لم يعودا خادشين للحياء أو يسببا رجفة العار.
لقد تحرر هؤلاء وأمثالهم من العملاء من عوامل الخوف والحذر والحياء والضعة، مع الانهيارات الكبرى التي غشيت منطقتنا طيلة مرحلة ما بعد نصف القرن العشرين الثاني، وبالأخص في العقدين الماضيين.