تقف الطبقة الحاكمة في لبنان على أطلال بلد مأزوم بانفجار مدمر أعادها لمشاهد
الحرب الأهلية قبل ثلاثين عاما، إلى جانب أوضاع اقتصادية ومعيشية متردية تعد
الأسوأ على الإطلاق.
واستغرقت عملية إعادة بناء بيروت 15 عاما بعد حرب أهلية مدمرة من 1975
إلى 1990، لكن الانفجار في المرفأ في 4 آب/أغسطس حول ذلك إلى أنقاض.
وكابد لبنان خلال السنوات الماضية ويلات كثيرة من الحروب والاجتياحات
والاحتلال والضربات الجوية وتفجيرات السيارات الملغومة والاغتيالات.
وامتازت بيروت المطلة على البحر الأبيض المتوسط بعراقتها فباتت وجهة سياحية عالمية، غير أن الانفجار
الكارثي الذي أطلق سحابة على شكل ثمرة الفطر في سمائها ربما يكون قد قضى على قدرة
اللبنانيين الأسطورية على التكيف مع نوازل الدهر.
وقدر خبراء أن هذا الانفجار يعادل عُشر قوة القنبلة الذرية التي ألقيت على
هيروشيما قبل 75 عاما في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقال جان كوبيس منسق الأمم المتحدة الخاص في لبنان لرويترز: "الوضع
كارثة كبيرة حلت بالبلد وهو راكع. البلد منكسر والشعب مفلس ومنكسر".
واستقالت الحكومة بعد موجات من الغضب الشعبي من إهمال أدى إلى الانفجار
الذي قالت إن السبب فيه كان 2750 طنا من مادة نترات الأمونيوم ذات القابلية
الشديدة للاشتعال مخزنة بشكل غير آمن في مرفأ بيروت الذي يرى كثيرون إنه عنوان
للفساد وسطوة أمراء الحرب.
اقرأ أيضا: مكتب تحقيقات أمريكي يشارك بالتحقيق في انفجار بيروت
وقد تلقى الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء حسان دياب ومسؤولون آخرون وثائق
تحذر من أن انفجار هذه المادة يمكن أن يدمر بيروت. وأصر عون ودياب على أنهما أحالا
التحذير إلى السلطات المعنية.
وأعلن الرئيس فتح تحقيق في الانفجار. لكن دبلوماسيين يتابعون النظام
السياسي القائم على المحاصصة الطائفية يشتبهون في أن "التحقيق ربما ينتهي إلى إخفاء
أدلة أكثر مما يكشف".
وبالنسبة للنخب التقليدية من أمراء الحرب وقيادات العائلات الكبرى في
الطوائف المسيحية والإسلامية وحلفائهم من كبار رجال الأعمال فقد سارت الأمور في طريقها
المعتاد بعد الانفجار دون أن تحيد عن مسارها خلال العام الأخير الذي شهدت فيه
البلاد أزمة اقتصادية متفاقمة.
وقال كوبيس: "من المؤسف أن ما أراه هو أن الشخصيات السياسية والقيادات
لا تزال تعمل بالطريقة المعتادة نفسها. بالطبع هم يدركون أن البلاد ربما تكون قد
بلغت أقصى مدى، لكنني لا أرى أي تغيير في السلوك".
ويقول دبلوماسيون ومسؤولون ومحللون إن هذه القيادات منشغلة الآن باختيار
رئيس وزراء جديد سيتعين عليه أن يوافق على اتباع سياساتها والحفاظ على شبكات
المحسوبية وتفادي الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي لمد يد العون.
وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت عقب الانفجار فإنه قام بجولة
في المنطقة المنكوبة وتجول في أحياء أصابها الدمار لمواساة المكلومين والاستماع
لصوت الغاضبين.
ولم يزر أي من حكام لبنان المناطق المنكوبة. وقال سكان إنه عندما التقى
ماكرون بعون ودياب ونيبه بري رئيس مجلس النواب فقد كان المعنى جليا إذ كان ماكرون وحده
دون الثلاثة يضع رابطة عنق سوداء احتراما لضحايا الانفجار.
إفلات من المحاسبة
يقول دبلوماسيون ومحللون إن أزمات لبنان العديدة تنبع في الأساس من مشكلة
واحدة هي حكامها وقدرتهم على الإفلات من المحاسبة.
ففي نهاية الحرب ارتدى قادة الفصائل المتحاربة الملابس المدنية وتصافحوا
وألقوا السلاح، باستثناء جماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران. لكن هؤلاء القادة
ظلوا في موقع القيادة وفي أغلب الأحيان تحت رعاية أجنبية، فاتجه السنة وشركاؤهم
المسيحيون إلى الغرب والخليج بينما اتجه الشيعة وحلفاؤهم المسيحيون إلى سوريا
وإيران.
وتعمدت سوريا التي رابطت قواتها في لبنان لمدة 29 عاما ابتداء من 1976
الحفاظ على النظام الطائفي لكي تكون لها الكلمة العليا من خلال العمل بمبدأ فرق
تسد. وقد اضطر الجيش السوري للخروج من لبنان في 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق
الحريري.
أما "إسرائيل" التي احتلت أجزاء من جنوب لبنان على مدى 22 عاما فقد كانت
الذريعة التي أسس عليها حزب الله احتفاظه بسلاحه. وأخرج حزب الله الاحتلال الإسرائيلي
في العام 2000.
اقرأ أيضا: نصر الله للاحتلال: اتخذنا قرارا بالرد وعليكم الانتظار (شاهد)
ومنذ ذلك الحين أصبح حزب الله رأس الحربة الإيرانية في لبنان والمنطقة وقوة
أقوى من الدولة نفسها في الداخل.
وقال مراقب أجنبي: "هذا بلد ترسخت فيه ثقافة عدم المحاسبة. وهذا هو
أبرز عنصر في لبنان. انفجار المرفأ راح ضحيته 170 شخصا ومع ذلك لا توجد مطالب قوية
للمحاسبة على أعلى المستويات".
وقال المعلق اللبناني سركيس نعوم إن أمراء الحرب السابقين خلعوا الزي
العسكري وارتدوا البدلات لكنهم ما زالوا يديرون البلاد بعقلية المليشيا من فساد
وطغيان وطائفية.
وأضاف أن لبنان أصبح دولة فاشلة وأن أمراء الحرب أصبحوا مسؤولين مسؤولية
مباشرة عن تحويل البلاد إلى دولة معطلة بسبب انقساماتهم وكراهية كل منهم للآخر.
وتابع بأن كلا منهم ربط نفسه بدولة أجنبية وتحالف مع قوى خارجية.
واتفق مهند حاج علي الباحث الزميل بمركز كارنيغي الشرق الأوسط في بيروت مع
الرأي القائل بأن تطبيق إصلاحات عميقة في ظل الطبقة السياسية الحالية أمر مستبعد.
وأشار إلى احتياطيات البلاد الناضبة من الدولارات، فقال إن القيادات غير
مستعدة للتخلي بهذه السرعة عن النظام القديم الذي يمكنها من تمويل أحزابها ومن
مواصلة بذخها في الإنفاق. لكنه أضاف أن الوقت بدأ ينفد وأن لبنان لم يعد أمامه سوى
العمل مع صندوق النقد الدولي أو الفوضى.
وقد شهد اللبنانيون العاديون قيمة مدخراتهم تتبخر في المصارف المحلية التي
حالت بينهم وبين حساباتهم. أما حكام لبنان ورجال المصارف فيواصلون على النقيض
العيش في دعة.
وتزامن الانفجار مع تدهور الاقتصاد اللبناني، ففقدت العملة الوطنية أكثر من 80 بالمئة من قيمتها، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، ولم يستطع كثير من اللبنانيين توفير احتياجاتهم الأساسية، وسط ارتفاع في معدلات البطالة والفقر.
ويقول لبنانيون إن الاشتغال بالسياسة في لبنان "عمل مربح" حتى إن الساحة
السياسية مرصعة بالمليارديرات. كما أنهم يقولون إن القيادات السياسية تستغل موقعها في
تعيين أتباعها في الوزارات وتنهب المال العام وتقتنص لنفسها عقودا عامة مُبالغا فيها.
وثمة إجماع بين الدبلوماسيين على أن الحكومة المستقيلة طرحت خطة إصلاح
معقولة في المحادثات مع صندوق النقد الدولي، لكن لم يحدث شيء وذلك في الأساس لأنها
لم تكن تحظى بالدعم السياسي من القوى التي رشحتها.
وقال نعوم إن الأطراف التي يحتمل أن تخسر من صفقة صندوق النقد الدولي هي
نفسها أركان الدولة اللبنانية، مشيرا إلى أن هذه الأطراف اعتقدت أن بوسعها الحصول
على عشرة مليارات أو 20 مليار دولار من صندوق النقد ثم العودة إلى أساليبها
القديمة.
ووسط هذه الفوضى فقد بدأ نزوح جديد لأصحاب المهن مثلما كان الحال خلال الحرب
الأهلية.
وقال دبلوماسي: "هذا الانفجار أعاد لبنان إلى الركوع من جديد. وما يحتاج
إليه لبنان الآن هو نظام حكم حديث".
لبنان يدخل فراغا سياسيا في ظل أسوأ أزمة يمر بها
إعمار لبنان.. آمال كبيرة على مساعدات مشروطة بالإصلاحات
كيف ترددت أصداء انفجار مرفأ بيروت في طهران؟