اختراقٌ أمني غربي آخر للفضاء العربي المستباح ينفذ اليوم من البوابة اللبنانية الرخوة بعد تهيئة البوابة الليبية، بإرسال فرنسا وبريطانيا قطعتين حربيتين إلى الساحل اللبناني منها ينفذان الآن ما يشبه الإغلاق البحري التام حول ميناء بيروت المنكوب، في ما يشبه التخليق السريع لبؤرة مواجهة ثانية مع الأتراك أضيفت إلى البؤرة الليبية المرشحة اليوم لتصعيدٍ عسكري وشيك.
هذا الحضور البحري العسكري الفرنسي البريطاني السريع على السواحل اللبنانية مباشرة بعد وقوع تفجير ميناء بيروت، يستجيب لحاجتين ليس بوسع الغرب إخفاءهما، لعل أبرزها في الوقت الراهن ممارسة ضغط سافر على الدولة اللبنانية وعلى جيشها تحديدا لمنع قيام أي تحقيق جادّ في حادث التفجير، الذي بدأت تحوم حوله شكوكٌ كثيرة، مع تراكم الشهادات والفيديوهات التي تظهر بشكل جلي حصول تفجير غير تقليدي، إما بواسطة صاروخ جو أرض أو بحر أرض، أو عبوَّة مدسوسة تعمل بتقنية “الريلي تايلر” المجربة قبل شهور بسوريا بنفس موجات التدمير الدائرية المنسجمة التي لا تنتج عن أي تفجير تقليدي.
وقبل هذا الحضور العسكري الاستعراضي، كان جانبٌ من الإعلام اللبناني والدولي قد توقف عند الزيارة السريعة للرئيس الفرنسي وتصرُّفه كحاكم فعلي للبنان، انتهت تهديداتُه الفجّة للسلطات اللبنانية بإقالة الحكومة في نفس اليوم الذي كان يفترض أن يُسلَّم فيه تقريرُ لجنة تقصي الحقائق، وجاء قرار إرسال القطعتين البحريتين كرد استباقي للعرض التركي بوضع أحد الموانئ التركية تحت تصرُّف لبنان، والتكفُّل بأشغال إعادة تأهيل ميناء بيروت من جديد.
ومن الواضح أن القوى الدولية المتصارعة حول ثروات الحوض الشرقي للمتوسط من الغاز، قد اغتنمت دون حياء المأساة اللبنانية لتجرَّ لبنان إلى دائرة الصراع المتنامي في حوض الأبيض المتوسط بإبعاده الاقتصادية والجيوسياسية التي تمتدُّ من الشام وحتى مضيق جبل طارق، تريد ملء الفراغ الناتج عن تراجع الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، يتقدَّمها ثنائي “سايكس – بيكو” الفرنسي البريطاني كـ”وريثٍ شرعي” للحضور الأمريكي من جهة، وتركيا الحالمة بفرصة استعادة جزء من الإمبراطورية العثمانية التي فُككت قبل قرن.
ومرة أخرى يجد العالم العربي ـ الفاقد للقيادة والرؤية ـ نفسه عرضة لتكالب القوى الإقليمية والدولية، مرشحا لمواجهة أكثر من اعتداء متزامن، عادم للاستقرار ولفرص التنمية، يُضاف إلى العدوان الصهيوني المستدام، الذي لم يعُد الغرب يأتمنه على إدارة الصراع بكفاءة مع عالم عربي غير مستقرّ، جغرافيته السياسية والبشرية حبلى بمشاريع الثورات الشعبية التي أجهضها بتوقيت استباقي الربيعُ العربي الموجَّه، وتعمل القوى الغربية اليوم على تسهيل عودة الأنظمة العسكرية، وإغلاق ملفّ تصدير الديمقراطية، الساقط في العراق ولبنان، واليمن، والسودان، وهو مرشحٌ للسقوط قريبا في تونس.
ما هو على المحك في لبنان اليوم، هو التخلص السريع من التجربة الديمقراطية الطائفية، كمقدِّمة لمنع قيام نسخ لها في العراق، وسورية، واليمن، يرى الغرب أن إيران استفادت منها أكثر من استفادة حليفهم الصهيوني، كما استفاد الأتراك وأرخبيل الإخوان من ثورات الربيع أكثر من النخب العلمانية الموالية للغرب، سواء في التجربة المصرية، أو الليبية، أو التونسية، وحتى في المغرب، وجاءت النسخة الجزائرية منه بقوى وطنية استعادت الإمساك بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والسياسية تكون قد نجحت في الإفلات من فخ استدراج العسكر إلى واجهة الحكم كما حصل في مصر والسودان.
وكما كان يعوِّل الغرب على تسليم السلطة في ليبيا لعسكر حفتر، فإن مأساة تفجير مرفأ بيروت قد وفرت للغرب فرصة إسقاط سهل لحكومة لم يُسقطها حَراكٌ شعبي امتدّ سنة، ومعها إسقاط مستشرف لتجربة الديمقراطية الطائفية، وتسليم الحكم لعسكر لبنان، ليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: وضع لبنان مجددا تحت نظام وصاية غربية مقنَّعة، وإخراج حزب الله وإيران من المشهد السياسي اللبناني، وفك الارتباط مع سورية كساحةٍ خالصة للروس، فضلا عن فرصة التحكُّم في بلد تعتبر جبهته الجنوبية أخطر جبهة على أمن الكيان الصهيوني، ويشكل الخاصرة الرخوة الثانية بالساحل الجنوبي للأبيض المتوسط في اتجاه الجزيرة العربية، يقابله في الحوض الغربي المشهدُ الليبي المنفلت الذي تراهن عليه القوى المتصارعة كـ”ديفيرسوار” مفتوح للتوغل بالقوة في الساحل وفي قلب إفريقيا.
(الشروق الجزائرية)