يشخّص حازم صاغية في مقالة له، منشورة في الشرق الأوسط السعودية، القضية الفلسطينية بأنّها محاطة بالأسطرة التي ترفعها فوق الحلّ، ويستدلّ على ذلك بعدد من الشعارات التي رافقت القضية، من قبيل القول إنّها حرب وجود لا حدود. وبكلمة جامعة لمجمل أمثلته، فإنّ فلسطين فوق الفلسطينيين وفوق الأجيال وفوق الحكام العرب. ويزعم صاغية أن تشخيصه هذا رافق القضية منذ 120 سنة، ولا يوجد ما يضمن أنْ تحلّ هذه المشكلة في الـ120 سنة القادمة، ولذلك فالقضية منفوخة بالشحوم والدهون، التي تحتاج شفطا يمنحها الرشاقة، لتكون قضية سياسية معقولة قابلة للاختلاف والحلّ!
أيّ عربي، لديه أدنى اطلاع على مسار القضية الفلسطينية ومآلاتها، وينظر للكيان الصهيوني على أنّه مشكلة حقيقية وجدّية، ولا يختصر مشاكل العرب في إيران ومحورها، سوف يصاب بالذهول من حجم المغالطة في أطروحة صاغية، الذي لا تنقصه بدوره المعرفة بهذه القضية التي عايشها وكان قريبا منها، وإن في بعض محطاته، من موقع مناقض لموقعه الراهن، على الأقل من جهة آرائه السياسية بخصوصها. ويكفي السبب الأول، الذي ذكره، مما يدعوه للتذكير بمشكلة أسطرة القضية الفلسطينية وتقديسها، لإدراك كارثية سمنة التطرف في الآراء، وشحوم النظر بعين واحدة، ودهون الرؤية الرازحة تحت هاجس واحد لحوح!
يرى صاغية، في سببه الأول، أنّ هذا التذكير بأهمية نزع القداسة عن فلسطين، ضروري لتحرير الفلسطينيين من عبء مشكلة لا حلّ لها، ومن معاناة قاتلة أفقها مسدود. وأوّل ما يتبادر إلى ذهن الذي يعيش القضية الفلسطينية بهواجسها هي، وهمومها هي، ومشكلاتها الحقيقية، لا بمجرد هاجس مواجهة إيران، أو التصدي لشعارات "محور الممانعة"، التساؤل عما إن كان سبب معاناة الفلسطينيين هي أسطرة قضيتهم، وثقلها بشحوم القداسة والتاريخ!
يبدو صاغية كمن ينسى أن الفلسطينيين، وفي سياق عربي شبه شامل، قد نزعوا لحم القضية وعضلاتها وأعصابها وعظامها، وتبقّى لهم القليل يفاوضون على نزع ما تبقّى منه من لحم وعظم!
يبدو صاغية كمن ينسى أن الفلسطينيين، وفي سياق عربي شبه شامل، قد نزعوا لحم القضية وعضلاتها وأعصابها وعظامها، وتبقّى لهم القليل يفاوضون على نزع ما تبقّى منه من لحم وعظم! ولك أن تتخيل شعورك وأنت مضطر لتذكير شخص كصاغية، بأنّ الفلسطينيين فعلا اعترفوا بـ"
إسرائيل" على ثلثي فلسطين، وأنّهم لم يتلقوا مقابلا إسرائيليّا يعترف بحقهم في تقرير مصيرهم على ما تبقى من فلسطين. وهذا المتبقي من فلسطين، أي الضفّة الغربية، مهدّد بالضم الإسرائيلي، بعد الضمّ الفعلي الجاري، برعاية إدراة ترامب، وسكوت عربي مطبق هو أقرب للموافقة منه للرفض، لو أخذنا بعين الاعتبار مظاهر
التطبيع العلني، وعلاقات التحالف التحتي، وحملات التشهير بالفلسطينيين، والحطّ من قضيتهم، في إعلام عربيّ لا يبعد كثيرا عن الإعلام الذي يكتب فيه صاغية، وبمنطق لا يختلف إلا في الدرجة والشكل عما يطرحه صاغية. وفي مقابل ذلك، لم تفعل السلطة الفلسطينية أكثر من بعض الامتناع عن التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتهديد بخطوات لم تزل تهدد بها منذ 10 سنوات ولم تنفّذ منها شيئا!
ولك أن تدرك أن هذا المسار، الذي اختطته منظمة التحرير، أي الاعتراف بـ"إسرائيل"، والسعي لإحراز ما تبقى من فلسطين، هو مسار فلسطيني شامل بالفعل والواقع، بغض النظر عن الموقف النظري والأيديولوجي، فكلّ معارضي التسوية قبلوا إمّا سياسيّا بالسلطة الفلسطينية، كحركة حماس وبعض قوى اليسار، أو تعاملوا معها باعتبارها باتت واقعا فلسطينيّا يعبّر عن وجهة نظر سياسية حتّى لو كانت مرفوضة، كالجهاد الإسلامي، ولم يرفع أحد السلاح في وجه السلطة المنبثقة عن الاعتراف بـ"إسرائيل"، لمجرد هذا الاعتراف، بل السلطة هي التي افتتحت علاقتها بمعارضيها بالسلاح والاعتقال، منذ تأسيسها، أي قبل الانقسام الفلسطيني بـ 13 عاما، ولم يكن الانقسام في حيثيته المباشرة إلا نتيجة لرفض طبقة السلطة وحزبها و"إسرائيل" والإقليم والعالم؛ فوز حماس بالانتخابات التي جاءت بها إلى سلطة.
فإذا كان الفلسطيني نفسه، من خلال منظمة التحرير والقوّة المهيمنة عليها، قد قبل بـ"إسرائيل"، وأخذ يفاوض على الفتات، فما هو العبء الذي يريد صاغية تحرير الفلسطيني منه، بتذكيره أنّ القضيّة الفلسطينية لا ينبغي أن تكون مقدّسة؟! أن يقبل بخطّة ترامب مثلا؟! أنّ يكفّ عن المطالبة بما تبقّى؟! لا يحرّر صاغية بالضبط هيكل القضية السياسي بما فيه من مصالح وحقوق، من شحوم القداسة التي سمّنته فأخفته، فهو لا يكاد يرى الأمر إلا بالقدر الذي تُنتزع فيه القضية الفلسطينية من التأويل الرفضي الإيراني/ السوري الذي يستثمر في التعنت الإسرائيلي والعجز حياله.
انتزاع القضية من هذا التأويل، يعني بحسب صاغية أن تصبح قضية قابلة للنقاش، فيها من يقول بحقّ العودة وفيها من يقول باستحالته، وفيها من يدافع عن القتال وفيها من يهاجم القتال. لم يذكر صاغية من يقاتل، ولكن فقط من يدافع عن القتال.
ما يدعو صاغية إليه هو الموافقة على أيّ شيء يطرحه الإسرائيلي، كأن يتحول الفلسطينيون إلى كائنات خادمة للأمن الإسرائيلي مقابل السماح لهم بالأكل والشرب، بلا حقوق سياسية!
ا
تبدو "الرومانسية النظريّة" مسموحة وغير ضارّة حتّى اللحظة، شرط ألا تتمنطق بالتخوين. وبالتأكيد، ولأنّ هذا بمجرده لن يحلّ قضيّة فلسطين، سينتقل صاغية إن أطال الله في عمره، إلى اعتبار مجرد الدفاع عن القتال تقديسا للقضية يضع حبّها في طاحونة الإيراني، هذا إن ظلّ الإيراني على حاله! وهو ما يدعو للاعتقاد أنّ ما يدعو صاغية إليه هو الموافقة على أيّ شيء يطرحه الإسرائيلي، كأن يتحول الفلسطينيون إلى كائنات خادمة للأمن الإسرائيلي مقابل السماح لهم بالأكل والشرب، بلا حقوق سياسية!
القراءة التاريخية، التي تلحظ القضية في سياقاتها التاريخية، لا بإلحاح هاجس طارئ، ستدرك بالضرورة أنه لم يكن للعرب ولا للفلسطينيين، في مطلع القضيّة إلا التمسك بالحقّ الفلسطيني والعربي كلّه، ومع ذلك فدعوات التسوية ومشاريعها عربيّا وفلسطينيّا لم تتوقف، وهو ما ينتقص من تشخيص صاغية التاريخي. لكن وبالتسليم به، فإنّ الفلسطينيين في حالة
مفاوضات مباشرة وعلنية مع "إسرائيل" منذ ثلاثين عاما، وحينما تتوقف هذه المفاوضات بسبب تعنت الإسرائيلي، فإنّ العلاقات المتشابكة بين السلطة الفلسطينية ومصالح الفلسطينيين اليومية والمعيشية، وبين "إسرائيل" لا تتوقف، وفي اللحظة التي كانت قد دخلت فيها إيران على خطّ القضية الفلسطينية، وبمستوى منخفض عمّا صار عليه لاحقا، كانت مصر قد اعترفت بـ"إسرائيل" وانسحبت من الصراع، وبمجرد توقيع اتفاقية أوسلو، هرول العرب لتوقيع اتفاقيات سلام، أو مذكرات تفاهم وتبادل تجاريّ ودبلوماسي مع "إسرائيل".
ولو أخذنا دول الخليج الآن مثلا على الحال العربي، لوجدنا أربعا منها تقيم نمطا من العلاقات المعلنة مع "إسرائيل"، هذا فضلا عن علاقات التحالف السرّي. وبعض دول المغرب العربي ليست أحسن حالا، وقد دخل السودان أخيرا على خطّ التطبيع العلني، بل حتّى سوريا وافقت على المبادرة العربية، وانخرطت في مفاوضات مع "إسرائيل"، وما سوى ذلك، فهي دول عربية لا يبدو أن القضيّة الفلسطينية اليوم تتمتع لديها بأيّ قدر من الأولوية، فما هي تلك القداسة التي يتحدث عنها صاغية الآن، سواء فلسطينيّا أم عربيّا؟!
يحوّل منطق صاغية القضية الفلسطينية من مشكلة مع "إسرائيل" إلى مشكلة مع إيران، فالقضية الفلسطينية، بحسبه، بيئة صالحة للاستثمار الإيراني، ولذلك فهو صريح في أسبابه الثلاثة المتبقية التي سوّغ بها التذكير بضرورة نزع القداسة عن فلسطين، في كون فائدة ذلك في التحرر من الابتزاز والاستثمار والاستغلال الإيراني! سبب واحد لتحرير الفلسطيني من "عبء مشكلة لا حلّ لها" انتهى به إلى حشو إنشائي لا فائدة فيه، فالذي ينقص الفلسطينيين بالتأكيد ليس أن تتحوّل قضيتهم إلى مادة للنقاش دون تخوين، وهو أمر حاصل على كلّ حال، وثلاثة أسباب لنزع القضيّة من الاستغلال الإيراني! فدوافع صاغية ليست حقوق الفلسطينيين الذين لم تزد حقوقهم عنده، في النتيجة النهائية، على تشظية قضيتهم بين المتناقشين، ولا مشكلته الوجود الإسرائيلي ولا ممارسته، وإن ذكر باستحياء تعنته الذي ينبغي التعامل معه برشاقة دون دهون زائدة، وإنما مشكلته في القضية الفلسطينية مع إيران!
هذا المنطق الذي يعاكس الحقيقة والواقع، يتورط في قدر من التقديس للصراع مع إيران، وفيما يصبّ في طاحونة طبقة من أحطّ ما عاناه العرب من حكّام يدفعون مقابل مصالحهم الضيقة من كيس القضيّة الفلسطينية
هذا المنطق الذي يعاكس الحقيقة والواقع، يتورط في قدر من التقديس للصراع مع إيران، وفيما يصبّ في طاحونة طبقة من أحطّ ما عاناه العرب من حكّام يدفعون مقابل مصالحهم الضيقة من كيس القضيّة الفلسطينية. فإذا كانت إيران تستثمر في القضية الفلسطينية بجعلها قضية مقدسة، فلدينا من يستثمر في القضية الفلسطينية بالدعوة للتخلّص منها إمّا لتسهيل المواجهة مع إيران، أو لدفع بعض الأثمان للولايات المتحدة و"إسرائيل" في القضايا الخاصّة لبعض هؤلاء الحكّام العرب، وإلا فلو لم تكن الصورة على هذا النحو، لأمكن مواجهة السياسات الإيرانية، وكشف حقيقة شعاراتها وأهدافها من الاستثمار في القضية الفلسطينية، دون الدعوة للتخلّي عن هذه القضيّة، تحت عنوان "شفط دهونها"!
إنّ الأسوأ من هذه المغالطة التي تنكر الواقع والتاريخ وحقيقة المشكلة، هو اتخاذها مسارا خاطئا في مواجهة إيران، فأفضل السبل لمواجهة إيران العودة لتبني القضية الفلسطينية بأصالتها وبحقوق الفلسطينيين كاملة فيها، لا الدعوة لشفط دهونها، لا سيما وأنّها بالفعل لم يتبق فيها ما يُشفط! ولكن "فإنّها لا تعمى الأبصار".
twitter.com/sariorabi