قدّم (مرسي جميل عزيز) كلماتٍ بسيطةً في بحر الهزج (مفاعيلُن مفاعيلُن)، حيث يتكون المذهب من ثلاثة أشطُر "بشاير مِ الحبيب هالّة/ تقول للموعودين يالله/ على المُختار حبيب الله".
يغني كورَس النساء الشطرين الأولين من المذهب، بينما يتولى كورس الرجال الشَّطرَ الأخير ويردد "حبيب الله" صعودًا إلى أعلى سلّم مقام الراست ثم هبوطًا إلى قرارِه. في إيقاع الوحدة الكبيرة قدم لنا (عبد العظيم عبدالحق) بداية في هذا المقام المعبِّر عن الفرحة الغامرة، ويخرج منه إلى البياتي الدافئ في الكوپليه الأول "يا مركب طيري واتهادي/ بحُبّ المصطفى الهادي" ليعود إلى الراست مع "تلاقي البحر موج هادي" ليلتحم مع الشطر الأخير من المذهب "على المختار حبيب الله"
بشاير – سيد إسماعيل:
ثم يخرج إلى مقام نوا أثر في الثاني "طوايف من بعيد جايّة/ تجاورك يا نبي شويّة" حيث ينحصر أداء (سيد إسماعيل) في النصف الأعلى من المقام، أي جنس الحجاز، ثم تهبط الوتريات النصف الأسفل من المقام (عقد النكريز) بعد أن يُنهي أداءه لشطر "تجاورك يا نبي شويّة"، ولعلّ اختيار هذا المقام بارتباط جنسه الأعلى (الحجاز) بالأذان (رغم أنّ الأذان يُؤدَّى في كل المقامات، إلاّ أنّ الحجاز يُحيلُ السامعَ العارفَ به تلقائيًّا إلى مكة) يُشيرُ إلى اغتراف (عبد الحق) من نهر الآية الكريمة "وأذِّن في الناسِ بالحَجِّ يأتُوكَ رِجالاً"، حيث تُحيلُنا كلمات الكوپليه أساسًا إلى هذه الآية، فهي تتحدث عن طوائف جاءت من بعيدٍ امتثالاً لأذانٍ قديم. بعد ذلك يعود اللحن إلى الراست مع "وبين الأرض والمَيَّه/ بذِكر الله بتتجَلَّى".
ثم يَخرج أخيرًا إلى مقام الهُزام في الكوپليه الثالث مع خروج إلى إيقاع مقسوم سريع "وساعة البشرى ما تجينا/ بيوم عودة مُحِبِّينا"، مع ملاحظة أنّ (سيد إسماعيل) يُميل نُطق الألف التالية لنون الفاعِلين هنا تماشيًا مع عدد من اللهجات في أرياف مصر وبواديها، ويعود إلى الراست أخيرًا مع "نقيم الفرح والزينة"، حيث يصعد صوت (سيد إسماعيل) القادر السلس إلى أعلى السلّم في ثقة مع عبارة "على المختار حبيب الله".
والملاحَظ في الأغنية أنّ كل عناصرها تعبر عن الفرح الغامر، ابتداءً من البحر الذي اختاره الشاعر لكلماتِه (الفرَح من المعاني المعجميّة لكلمة الهزَج)، مرورًا بلَحن (عبد العظيم عبد الحق) وأداء سيد إسماعيل، وانتهاءً حتى بأصوات الزغاريد المصاحبة لتسجيل الأغنية. هذا فضلاً عن ملمَح آخر، هو توجيه الكلمات بحيث تُصبِح الوجهة البارزة لرحلة الحَجّ هي زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم (رغم عدم كون الزيارة من أركان الحجّ ولا العُمرة شَرعًا)، وبهذَين الملمَحَين تعبّر هذه الأغنية أصدقَ تعبيرٍ عن الحالة الإسلامية المصرية حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، فهي حالةٌ احتفاليّةٌ تمامًا، تحتفي بالاجتماع البشري، وتُشخصِنُ الدِّين بدرجةٍ لا يمكن إغفالُها، وفي رأيي أنّ لهذه الشخصنة علاقةً بانتصار الطبع المصريِّ لما هو إنسانيٌّ ملموس، فكأنّه طبعٌ يَميلُ إلى الجَمال الإنسانيّ أكثر من انجذابِه للجلال الإلهي، هذا إذا وافقنا الشيخ الشعراوي رحمه الله في أنّ الله يتجلى على مكة بأسماء الجلال وعلى المدينة بأسماء الجَمال.
عليك صلاة الله وسلامه - أسمهان:
أبدع (بديع خيري) كلمات هذه الأغنية على الوزن (مُتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلاتُنْ .. مُتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلانْ)، ورغم ابتدائه بالصلاة على النبيِّ ورجاء الشفاعة منه والحديث عن المَحمَل الذي ارتبط تُراثيًّا برحلة كسوة الكعبة من مصر إلى الحجاز ثم رحلة الحَجيج، إلاّ أنّ الغصن الأول من الأغنية ينحازُ إلى مكّة "كرامة لله يا قاصد مكة/ ونيّتك بالكعب تطوف/ تبوس لي فيها تراب السِّكَّة/ أمانة من مؤمن ملهوف/ سالت دموعه وطال دُعاه/ في يوم خشوعه ينول مُناه/ دي قِبلتَك يا نبي قدّامه/ عليه صلاة الله وسلامُه".
ويَطال هذا الانحياز المدينةَ أيضًا في الغصن الثاني "وإمتى عيني تشوف منظركم/ يا مَدنتين فوق الحرَمين/ واطول ما طال حُجّاج اتباركُم/ وشِربوا من زمزم بُقّين/ وفي المدينة نالوا القبول/ في نور نبينا طه الرسول/ يا بخت زوّاره بإكرامُه/ عليك صلاة الله وسلامُه"، وفي الغصن الثالث نسمع تفاصيل أكثر من أحداث الحج "يا ما اسعد اللي يُقَف ويكَبَّر/ على مِنَى وعرفات لله/ ويِحدِف الجمرات ويعبّر/ تايب نَصُوح مِتمَنّي هُداه/ غفر ذنوبُه مدى الحياة/ وعاش ينوبُه ثواب تُقاه/ بجاه نبي الهُدَى ومقامُه/ عليك صلاة الله وسلامُه".
هكذا أصرَّ بديع خيري أن ينقُل صورةً پانوراميّةً للحَجّ، وأودعَها خلاصة مشاعره الدينيّة في مناسبة الحَجّ. أما لحن فريد الأطرش فجاء أُحاديَّ المقام في البياتي، ويعرّج على جنس الحجاز في البيت الثاني من كل غُصن، فهو يخرج إليه مع "تبوس لي فيها تراب السكة..." و"واطول ما طال حُجّاج..." وأخيرًا "ويحدف الجمَرات ويعبَّر..." ليصبح المقام فرعًا من عائلة البياتي هو قارجهار (جنس الأصل بياتي والفرع حجاز).
والمهم أنّ هذه الأُحاديّة السهلة أتاحَت فرصةً أكبر لتأمُّل كلمات كل غصنٍ من الأغنية، فالمستمع يكتشف تدريجيًّا أنّ وتيرة اللحن واحدة فلا يتوقّع قفزاتٍ لحنيةً تعبيريةً ويفرغ للتواجُد مع العنصر الشِّعري في الأغنية.
أمّا أداء أسمهان فقد جاء نموذجًا للعبقرية، وهي عبقريةً تبدو لي بشكلٍ شخصيٍّ غيرَ إنسانية! أعني أنني مدرك بالطبع أنها قد تلقّت تدريبات صوتية استثنائية، إلاّ أنّ لخامة صوتها العريضة وطبيعته الفخمة دورًا عظيمًا في عبقريتها، وهي موهبةٌ إلهيةٌ مستعصيةٌ على التعقُّل بالنسبة لي، حيث يبدو لي أنها لا تبذل مجهودًا بشريًّا في أداء الأغنية بهذه المقدرة!
يا رايحين للنبي الغالي – ليلى مراد:
كتب أبو السعود الإبياري الكلمات في البحر الوافر (مُفاعَلَتُنْ مُفاعَلَتُنْ)، مكثِرًا من استغلال زحاف العَصب (التسكين) للحرف الخامس لتصبح التفعيلة (مَفاعِيلُن) كما في الهزج، بحر أغنيتنا الأولى (بشاير).
وهكذا لم نبتعد هنا كثيرًا عن إيقاع كلمات (بشاير). الكلمات هنا أيضًا شديدة البساطة "يا رايحين للنبي الغالي/ هنيّا لكم وعُقبى لي/ يا ريتني كنت ويّاكو/ واروح للهادي وأزوره/ وابوس من شوقي شبّاكُه/ وقلبي يتملي بنُورُه/ واحِجّ واطوف سبع مرّات/ والَبّي واشوف منى وعرفات/ واقول ربّي كتبها لي/ أمانة الفاتحة يا مسافر/ لمكّة تأدّي فرض الله/ حترجع والإله غافر/ ذنوبك لمّا نُلت رضاه/ ياريتني معاك في بيت الله/ وازور ويّاك حبيب الله.".
إلاّ أنها أكثر مباشرةً من كلمات مرسي جميل عزيز، كما تقع في سقطة إيقاعية في شطر "واروح للهادي وأزورُه"، وإن كان لحن رياض السنباطي قد خلقها خلقًا آخَر بالفعل.
يبدأ اللحن بنقر الدفوف إيقاعًا رباعيًّا مصاحبًا لترديد الجُموع لفظ الجلالة بطريقةٍ رتيبةٍ كما في حلقات الذِّكر، ثم يدخل الناي في مقام راحة الأرواح (وهو هُزام على درجة سِي نصف بيمول)، وبمجرد أن يهبط إلى درجة الركوز في قرار السلّم، تعلو أصوات جُموع الرجال من جديد مرددةً لفظَ الجلالة مرتكزةً على جواب درجة الركوز في أعلى سلّم راحة الأرواح، وهو تصرّف نغمي يعكس معايشة (رياض السنباطي) لأجواء حلقات الذِّكر الحقيقية. ينطلق صوت (ليلى مراد) على نفس المقام خلال المذهب.
في اللازمة الأولى بعد المذهب تكرر جوقة الرجال ترديد لفظ الجلالة بنفس الطريقة، ثم تقفز إلى أسفل بشكل مفاجئ لتردد (اللهُ اللهْ) على تتابع النغمات (دو-ري-فا-فا-ري)، ثم مرةً أخرى على تتابُع (دو-دو-ري- حِلية نغمية grace note على فا – مي نصف بيمول – ري)، وبهذا التتابع الأخير يهيئنا (رياض السنباطي) بارتكازه على درجة (ري) بعد أن مسَّ (مي نصف بيمول) لاستقبال الغصن القادم من الأغنية في مقام البياتي، وهو مقام يحيط الكلمات "ياريتني كنت ويّاكو .. إلى: وقلبي يتملي بنورُه" بحالة من الدفء والألفة والسكينة، خروجًا من لهفة وشوق مقام راحة الأرواح الذي يغلّف كلمات المذهب.
ثم يقفز لحن السنباطي قفزةً صغيرةً مع بداية كلمات "واحِجّ واطوف .. إلى: منى وعرفات" إلى الدرجة الرابعة من سلّم (بياتي رِي) وهي درجة (صول)، ليفاجئنا بخروجه إلى مقام (راست على درجة صُول/ راست نَوَى)، وهو المقام الأوفر حظًّا من إحساس الفرَح في المقامات العربية، جاعلاً من زيارة المشاعر المقدّسة في مكّة قمّة الخبرة الروحية لرحلة الحَجّ. وبعد أن ترتكز (ليلى مراد) على درجة (صول) في نهاية كلمة (عرفات)، تبدأ من حيثُ وقفَت هابطةً سلّم راحة الأرواح من جديدٍ في تغيير مقامي شديد العبقرية، مواكِب لمعنى الإفاقة من الحُلم المبهِج بأداء الشعائر على مشاعر اللهفة الأصلية التي شعرنا بها مع كلمات تمنّي مصاحبة الحجيج.
في الغصن الثاني تبدأ (ليلى مراد) من أعلى سلّم راحة الأرواح مواكبةً للطبقة التي تردد منها الجُوقة لفظَ الجلالة، وهنا نشعر بالصدق الفني لكلمات (الإبياري) على بساطتها، حيث يُنطِقها السنباطي بكل ما تختزنُه من شوقٍ ولهفةٍ إلى المشاعر المقدَّسَة.
ومع أدائها لسطر "حترجع والإله غافر" تهبط سلّم المقام، لكنّها تخرج عنه خروجًا لطيفًا فتمسّ درجة (فا) بدلاً من (فا دييز)، مُوحيةً بالنزول على سلّم البياتي، لكنّ اللحن سريعًا ما يعودُ إلى جادّة مقام راحة الأرواح بلهفتِه المميزة مع كلمة (ذنوبك) إلى أن يرتكز على قرار المقام (سي نصف بيمول) في نهاية كلمة (رضاه).
والمهم أنّ هذا الإيحاء الخفيف جدًّا من السنباطي بالمَيل إلى مقام البياتي يملأ المستمع بشعور الدفء والألفة لحظيًّا، كأنّ الغفرانَ قد تحقَّقَ بالفعل، ثم ما يلبث أن يُفيقَه من هذه الخُلسَة بإعادتِه إلى لهفة المتمنّي متمثلةً في المقام الأساسي للأغنية (راحة الأرواح).
في الحقيقة، تُطلِعنا هذه التجارب الغنائية الثلاث على مسألة مهمة، هي أنّ اللحن العظيم يستطيع أن ينفخ في الكلمات رُوحًا عبقريةً تُنطِقُها بأعمق ما فيها ولو كانت مصوغةً صياغةً بسيطة.
وهذا ما فعلَه عبد العظيم عبد الحق وفريد الأطرش ورياض السنباطي، دون أن نغمِط شعراء الأغاني الثلاث حقَّهم بالطبع.