ذاتَ يومٍ دراسيٍّ وأنا بعدُ في الصف الثاني الإعدادي، في حِصّةٍ تغيَّبَ أستاذُها الأصلي، دخل إلى فصلي أستاذٌ بديل – نسميه في مصر أستاذًا احتياطيًّا - هو في الأصل أستاذ للُّغة العربية.
وقرر الأستاذ أن يتناقش مع الطلَبة في أمورٍ بعيدةٍ عن منهج العام الدراسي، وكان أهمَّ ما فتحَه من موضوعاتٍ موضوع العلاقة بين الجذور اللغوية متشابهة الحُروف مِثل (كَلَمَ – مَلَكَ – لَكَمَ).
وكانت هذه هي المرّة الأولى التي أصطدمُ فيها بنظرية الاشتقاق الأكبَر كما سمّاها (أبو الفتح عثمان بنُ جِنّي) عبقري العربية في القرن الرابع الهجري، والتي أسرَتني وألهبَت خيالي منذ ذلكَ الحِين.
تزعُم النظريةُ أنّ هناك صِلاتٍ ضروريةً بين المعاني الأصلية لتلك الجذور اللغوية (الثلاثة في المثال المذكور)، فبلفظ أبي الفتح في (باب الفصل بين الكلام والقول) – وهو أول أبواب كتابه العُمدة (الخصائص)-: "ذلك أنها حيثُ تقلَّبَت فمعناها الدلالة على القوة والشِّدَّة."
إن الاشتقاق الذي يدرسه طلَبَة العربية في منهج الصَّرف لمَراحل التعليم الأساسيِّ هو ذلك الاشتقاق التقليديّ الذي توجد له نظائر في سائر لغات العالَم المعروفة، حيث نشتقُّ من جذر (كَ لَ مَ) الأفعالَ (كَلَمَ – كلَّمَ – تكلَّمَ) وأسماء الفاعِلِين مثل (مُكَلِّم – متكلِّم) وأسماء المفاعيل مثل (مُكَلَّم – متكلَّم) إلى آخر تلك الاشتقاقات المفهومة لجُملة المتحدِّثين بالعربية وعامّيّاتِها. أمّا اشتقاق ابن جِنّي الأكبر فيفترض أمرًا جليلاً وراءه، وهو أنّ هناك مناسبَةً قويّةً بين الكلمة ومدلولها، بل بين محض اجتماع الأصوات على أي ترتيبٍ ومعنىً معيَّنٍ ماثلٍ في دنيا الواقع، ففي مثال اجتماع أصوات (كَ لَ مَ) هناك معنى القوة والشّدّة في كل الجذور اللغوية التي تدخل فيها هذه الأصوات، مع مشتقاتها بالطبع. وهذا بالتبعيّة يُشير من طرفٍ خفيٍّ إلى أنّ هناك عقلاً واعيًا وراء وضع اللغة، وأنّ علاقة الكلمة بمدلولها أبعَدُ ما تكون عن الاعتباطية.
* إلهامٌ أم اصطلاح؟ اعتباطٌ أم مناسبة؟!:
لم أكن أعرف وقت اصطدامي الأول بالاشتقاق الأكبر أنّ هذه النظرية ترتبط بمسألةٍ شغلَت علم الكلام الإسلامي وكانت محور خلافٍ بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، وعُرِفَت بمسألة (ابتداء الوضع)، أي وضع اللغة بين أن تكون وحيًا من الله أو اصطلاحًا بين البشَر.
ومن المشهور عن ابن جنّي أنه رأى أنّ ابتداء وضع اللغة كان اصطلاحًا، لكن المثير أنه يختم باب (القول على اللغةِ أإلهامٌ هي أم اصطلاح) بالتصريح بحيرتِه في المسألة، حيث يقول: "واعلَم فيما بَعدُ أنني على تقادُم الوقت دائمُ التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالِج قوية التجاذُب لي" إلى قوله: "فقوِيَ في نفسي اعتقادُ كونِها توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي"، ثم يقول: "ثم أقول في ضِدِّ هذا كما وقع لأصحابنا – يعني المعتزلة – ولَنا، وتنبهوا وتنبَّهنا، على تأمل تلك الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خَلَقَ من قبلِنا - وإن بَعُدَ مَداهُ عنّا – مَن كان ألطف مِنّا أذهانًا وأسرعَ خواطِرَ وأجرأَ جَنانا.
فأقِفُ بين تَينِ الخَلَّتَين حسيرًا، وأكاثِرُهما فأنكفئُ مكثورا. وإن خطرَ خاطِرٌ فيما بَعد، يعلّق الكفَّ بإحدى الجهتين، ويكفُّها عن صاحبتِها، قُلنا بها، وبالله التوفيق." أي أنه لم يجزِم بأحد الرأيين في كتابه (الخصائص)، ولا أعلم إن كان قد تدارَكَ هذه الحيرةَ فيما بعدُ أم لا.
إذَن فأمامَنا مسألتان إلى الآن: العلاقة بين اللفظ ومعناه، أهي اعتباطيةٌ أم لمناسبةٍ طبيعيةٍ بينهما؟ وواضع اللغة، هل هو الله أم اصطلاحُ البشَر؟ والمسألتان مرتبطتان ببعضهما، وإن كان ارتباطًا بالغَ اللُّطف، فكَونُ علاقة اللفظ بمعناه لمناسبةٍ طبيعيةٍ بينهما يَعني أنّ هذه العلاقةَ قابلةٌ للتعقُّل دائمًا، وهو الرأي الذي اشتُهِر به (عَباد بنُ سليمان الصيمريّ) المعتزليّ المتوفى عام 250 ه، ثم تابعَه عليه أبو هاشم الجبّائيّ المعتزلي (ت. 321 ه).
أمّا اعتباطيّة العلاقة (عدم وجود مناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه) فتَعني أنه لا سبيلَ إلى إدراكِها بالعقل، ومِن ثَمَّ فهي تحتاجُ إلى واضعٍ نافذِ الإرادة والقُدرة إذا كان التفكير في سياقٍ إيمانيٍّ تأليهي، وقد ذهب أبو الحسن الأشعريُّ بناءً على ذلك إلى أنّ اللغة توقيفيّة، أي أنّ واضعَها هو الله.
وعَودًا إلى رأي الصيمريِّ وأبي هاشمٍ ومَن تابعهما من المعتزلة، نَجِد أنّ القولَ باطِّراد إمكان تعقُّل العلاقة بين اللفظ ومعناه (أو العلامة اللغوية ومدلولها) يتّسِق والتيار العامّ لفِكر المعتزلة الذي يجعل مَدارَ علاقة الإنسان بالله وبالعالَم مِن حولِه على العقل، فهو قولٌ يتجاوبُ ومبدأ التقبيح والتحسين العقليَّين (أي قول المعتزلة إن أوامر الشرع ونواهيه لا يمكن إلا أن تأتي موافِقةً لما يراه العقل من حُسنٍ وقُبحٍ على الترتيب).
كما يجد موقِعَه في منظومةٍ فكريةٍ ترى أنه "ليس في الإمكانِ أبدَعُ مِمّا كان"، أي أنّ الخالقَ خَلقَ العالَمَ كأحسنِ ما في قُدرتِه، وإلاّ فقد قَدَحنا في خيريّته المُطلَقة، فمِثلُ هذه المنظومة المعتزليّة ترى في كل ما في العالَم شكلاً صارمًا من أشكال الحتميّة، لا يَدَعُ حتى للخالقِ أن يُفلِتَ من قبضتِه، ومادامَ الأمرُ كذلك، فالألفاظُ – مثلُها مثل كلِّ شيءٍ – لم تَكُن لتجيءَ على شكلٍ مغايرٍ، فهو مسوقةٌ للوجود بتناسُبٍ طبيعيٍّ بينها وبين مدلولاتها، رغمَ أنها مِن اصطلاح البشر. وكلُّ هذا يصُبُّ في النهاية في بوتقة مسألة خلق القرآن، فمادامَت اللغةُ اصطلاحًا بشريًّا، فإنّ القولَ بقِدَم القرآن يبدو قولاً غير معقولٍ في هذا الإطار الفكري، ويتبقّى أن يكون القرآنُ مخلوقًا من مخلوقات الله، تحدّى اللهُ به العرَبَ مِن جنسِ ما خلقُوه من أصواتٍ وألفاظٍ وما ركّبُوه مِن عِبارات.
* قفزةٌ إلى القرن العشرين- الانتصار للاعتباطية:
انتصر علم اللسانيات الحديث لمبدأ اعتباطية العلامة اللغوية، واعتبرها (دي سوسير De Saussure) -اللغويُّ الأكثرُ تأثيرًا في تاريخ هذا العِلم- أمرًا مفروغًا منه، وإن لم يُنكِر وجود الكلمات الموضوعة لمحاكاة الأصوات أو تقليد الوقائع Onomatopoeic Words، وهي بالتالي كلماتٌ استثنائيّةٌ خارجةٌ على هذا المبدأ.
ويبدو هذا الانتصار متّسِقًا مع غَلَبَة مبدأ اللاحتميّة على كُلّ مناحي الفكر في القرن العشرين، فبعد أن سادَت المذاهبُ العقليةُ الفكرَ الغربيّ في عصرَي النهضة والتنوير، وآمَنَت نخبة مفكّري أوربّا بحتميةٍ آليّةٍ صارمةٍ يسيرُ العالَم وفقَها (مع هامش حرّيّةٍ إلهيةٍ آمنَ به ديكارت، ولم يَجِد سپينوزا في فلسفته عن شُمول الألوهية موضعًا له)، أزاحَت اللاحتميّةُ ما بقي من هذه المذاهب في القرن العشرين.
وكان صدى هذه اللاحتمية الشاملة في اللغويات أنه قد باتَ واضحًا ألاّ مناسَبَةَ ولا ضرورةَ تربط العلامة اللغوية بمدلولِها، فكأنّ الصراعَ الأشعريّ المعتزليَّ قد بُعِثَ مِن جديدٍ وكُتِبَت فيه الغَلَبَة للاحتميّة الأشاعرة المتبرّمة بالعقل، مع فارقٍ واضحٍ بالطبع، وهو أنّ اللاحتمية الجديدة لا تُسقِط الضرورةَ لكي تعود بمسألة وضع اللغة – أو غيرها من المسائل – إلى الله، وإنما تفعلُ ذلك مستسلمةً لفكرة غياب المعنى الأصلي، وآيةُ ذلك أنّ فكرة (دي سوسير) عن اعتماد معنى الكلمة على شبكة علاقاتها بما يجاورُها، هذه الفكرة تطوّرَت مع (دريدا) إلى مفهوم الاختلاف المُرجئ، حيث يسقُطُ القارئُ المتحرر من تحيزاته المسبّقة في تلك الهوّة المظلمة الكامنة في قلب كُلّ نصٍّ لغويّ بحسب دريدا.
* إضاءاتٌ جديدةٌ على بناء العلامة اللغوية:
يُلقي علم اللسانيات النفسي Psycholinguistics أضواءً جديدةً على مسألة بناء العلامة اللغوية، لاسيّما مِن خلال بحث آليات إدراك الأطفال في طفولتهم المبكرة للوحدات اللغوية (الكلمات). وابتداءً، أثبَتَ الباحثون في هذا الحقل المعرفيّ أنّ أطفالَ مرحلة الرضاعة إحصائيّون بالفطرة! يعني هذا أنهم قادرون من خلال آليّة مُخّيّة غير معروفةٍ بالكامل على حساب الخواصّ التكراريّة للكلمات في سياق مُدخَلاتِهم اللغوية التي يسمعونها من الآباء.
هكذا كانت خلاصة البحث الذي أجراه (سافران وأسلِن ونيوپورت) من قسم المخ والعلوم الإدراكية بجامعة روتشستر عام 1996.
وَلنَخطُ خطوةً أقربَ إلى موضوعنا، من خلال بحثٍ آخر أجراه (فِرّان پُنس وخوان تورو) من جامعتَي برشلونة وپمپيو فابرا في إسپانيا عام 2009، حيث توصّلا إلى أنّ الأطفال يتعلمون بسهولةٍ الكلمات التي تتبع قاعدةً معينةً في توزيع الحروف المتحرّكة (الصوائت Vowels) داخلَها، حيث يستخلصون القاعدة الحاكمةَ لهذا التوزيع ويطبّقونها تلقائيًّا على الكلمات الجديدة، لكنّ هذا لا يحدث إذا قُدِّمَت لهم كلماتٌ تتبع قاعدةً مشابهةً في توزيع الحروف الساكنة (الصوامت Consonants).
ومن المثير أنّ (تورو) في بحثٍ آخر مع (دانيلّا مورا) من نفس جامعتِه – ونُشِرَ البحث في مجلة العلوم الإدراكية Cognition عام 2013 – توصّل إلى أنّ الفئران تستطيع تطبيق مثل تلك القاعدة وتعميمها على كلماتٍ جديدةٍ لم تسمعها من قبل، لكن امتياز الفئران يكمُن في أنّها تستطيع استخلاص وتطبيق القاعدة في حالة كُلٍّ من الصوائت والصوامت!
هكذا يبدو أنّ الكلمة أو العلامة اللغوية لا تخضع في النهاية لاعتباطيّة كاملة، ويبدو أنّ هناك أنماطًا تكراريةً معيّنةً للأصوات يفضّلها المخّ البشريّ وأنّ لُغات البشر قد صِيغَت تبعًا لهذه الأنماط، لا تشِذّ منها لغةٌ واحدةٌ من اللغات المعروفة عن هذه الأنماط، كما يعلّق مقال (دافيد أدجر) أستاذ اللسانيات بجامعة كوين ماري في لندن.
والآن سنخطو خطوةً أخرى أقربَ إلى قلب موضوعنا، وهي خطوةٌ تعتمد على بحوث خرائط العلاقة بين الصوت والمعنى Sound-Meaning Mappings، والتي يظهر فيها اصطلاح (المُدرَك الصوتي Phonestheme)، وهو اصطلاحٌ يعني المناسبة بين العلامة اللغوية ومدلولها، ابتكرَه اللغوي البريطاني (چون فِرث J.R.Firth)، وهو بالطبع اصطلاحٌ يتحدى مبدأ الاعتباطية المركزي في اللسانيات الحديثة.
والمهمّ أن فريقًا من الباحثين (موناهان وشِلكُك وكرستيانسن وكِربي) قد نشر بحثًا في مجلة Philosophical Transactions لعلوم البيولوجيا عام 2014، انصبّت عيّنة هذا البحث على كلّ الكلمات أحاديّة المَقطَع monosyllabic وأحاديّة الصيغة monomorphemic في اللغة الإنجليزية من قاعدة بيانات CELEX بُغيةَ الوصول إلى دور المُدرَكات الصوتية (ذات المناسبة الطبيعية بين الكلمة ومعناها) في بناء القاموس الإنجليزي، في مقابل دور الاعتباطية.
وخلص البحث إلى أنّ السؤال القديم الذي أخبرَ عنه أفلاطون في محاورة كراتيلوس بين هرموجينيس وكراتيلوس – عمّا إذا كان معنى الكلمة متناسبًا تناسبًا طبيعيًّا مع صياغتها أو أنّ العلاقة بينهما اعتباطية – هذا السؤال يُجيب عنه البحث إجابةً تركيبيّة ديالكتيكيّة، وفحوى هذه الإجابة أنّ الافتراضَين صحيحان! فبنية اللغة تساعد على اكتسابِها في المراحل الأولى من خلال رمزيّةِ الأصوات (في تناسُبٍ طبيعيٍّ كالذي اقترحَه المعتزلةُ بشكلٍ ما)، وتساعد في المراحل الأكثر تقدُّمًا على التواصُل الفعّال المعتمِد على اعتباطيّة العلامة اللغوية، حيث تبدو الاعتباطيّة ضامنًا مهمًّا لتعظيم حجم المعلومات المتاح للعلامات اللغوية بتحريرِها من الارتباط المباشِر بالواقع، وهي ذاتُ الاعتباطيّة التي قال بها الأشاعرة وقدّسَتها اللغويات الحديثة!
انتهاءً، يبدو أنّ قضايا الفكر لا تموت. فقضية أصل اللغة التي كانت بؤرةً من بؤر الصراع بين متكلِّمي الإسلام، كما شغلت حيِّزًا من اهتمام أفلاطون حتى أفرد لها إحدى محاوراتِه، هذه القضيّة مازالت مشتعلةً وقابلةً للدفع بالمزيد من الحُجَج في طرفَيها.
ما تغيَّرَ في المقام الأول هو انتقال مركز ثُقل الحِجاج من التنظير الفلسفيِّ المبني على شواهد عامّةٍ إلى البحث العلميّ، لاسيّما في حقل اللسانيات النفسية، حيث تقوم الإحصاء بالدور الأهم لضمان صون النتائج من تحيُّزات الباحثين بقَدر الإمكان.
ولا أحدَ يَدري ما سوف يتمخض عنه البحثُ مستقبَلاً في هذا الحقل النشِط. ربّما نرتدُّ إلى الاعتباطيّة مبدأً وحيدًا كما قالَ بذلك هرموجينيس في محاورة كراتيلوس، وربما نكتشفُ أنماطًا إحصائيّةً أعمقَ تضعُنا في قلب الحتمية الآليّة كما تصوَّرَها سبينوزا وكما قال بها عبّاد بن سليمان الصيمري، وربما نقف في (منزلةٍ بين المنزلتين) باصطلاح المعتزلة!