كلاهما كانت مسيرتهما مشطورة نصفين؛ نصفها سياسي ونصفها الآخر إبداعي، وكلاهما تركا إرثا ثقافيا وإبداعيا وإنسانيا لا يزال يشكل أحد أعمدة الثقافة الفلسطينية والعربية.
إذا كانت رواية "رجال تحت الشمس" وعدم الطرق على جدران الخزان قد أكملت مسيرة غسان كنفاني الإبداعية، فإن قصيدة "أناديكم وأشد على أياديكم" التي غناها أحمد قعبور، أبقت قصائد توفيق زيّاد حاضرة في المشهد الفلسطيني بشكل يومي.
يتماهى السياسي والإبداعي مع توفيق زيّاد، بحيث يصعب الفصل بينهما في أي مرحلة من مراحل حياته، فهو شاعر ومترجم وكاتب وقاص ورئيس بلدية الناصرة وقيادي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح).
ولد زيّاد في مدينة الناصرة عام 1929، توفي والده وهو شاب صغير فاضطر للاعتماد على نفسه، وحرص على إكمال تعليمه، سافر إلى سوريا وتعلم مهنة التمريض لمدة 3 سنوات، كان حلمه أن يصبح طبيبا، لكن الظروف السياسية والاقتصادية حالت دون ذلك، فسافر إلى الاتحاد السوفييتي سابقا ودرس الأدب هناك.
انضم "أبو الأمين" كما يكنى إلى "راكاح"، وأصبح عضوا في "الكنيست" الإسرائيلي لأكثر من دورة انتخابية ممثلا عن "راكاح"، ومن ثم عن "القائمة الجديدة" للحزب الشيوعي، وفيما بعد عن "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة".
كما كان لفترة طويلة وإلى يوم وفاته رئيسا لبلدية الناصرة في الفترة ما بين عامي 1975 و1994.
أدىزيّاد دورا مهما ومحوريا في إنجاح إضراب يوم الأرض الفلسطيني في 30 آذار / مارس عام 1976، حيث تظاهر الفلسطينيون في جميع الأراضي المحتلة ضد مصادرة الأراضي وتهويد الجليل.
نضاله وصموده وقصائد المقاومة التي كانت تتشوق الجماهير إلى سماعها بصوته، عرضته إلى أكثر من محاولة اغتيال، بوصفه أحد رموز صمود الشعب العربي الفلسطيني وتصديه لسياسة الاحتلال وممارساته.
وكان قد تعرض بيته لاعتداءات متعددة على يد المتطرفين الإسرائيليين، من بينها محاولة حرق منزله، كما تعرض لاعتداءات مباشرة في مناسبات عديدة، من بينها في أثناء الإضراب احتجاجا على مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994، وفي إضراب يوم الأرض عام 1976، غير أن أبشع الاعتداءات كان عام 1977 قبيل انتخابات الكنيست؛ إذ جرت محاولة اغتياله ونجا منها بأعجوبة.
وتعرض وعائلته لاعتداءات عديدة أصيب أفراد عائلته وضيوفه بالجراح جراء الاعتداءات، وكان هدف الاعتداءات زيّاد شخصيا. وفي إحدى المرات أطلقت الشرطة قنبلة غاز عليه، وهو في ساحة الدار.
على الصعيد الإبداعي، فقد ترجم من الأدب الروسي وأعمال الشاعر التركي ناظم حكمت، وأصدر العديد من المجموعات الشعرية، لعل من أشهرها مجموعة "أشد على أياديكم" التي تعد علامة بارزة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال. وتتضمن المجموعة عددا من القصائد التي تدور حول النضال والمقاومة، وبعض هذه القصائد تحولت إلى أغان وأصبحت جزءا من تراث أغنى المقاومة الفلسطينية.
ومن مجموعاته الشعرية: "ادفنوا موتاكم وانهضوا " و"أغنيات الثورة والغضب " و"أم درمان المنجل والسيف والنغم" و"شيوعيون" و"كلمات مقاتلة" و"عمان في أيلول" و"تَهليلة الموت والشهادة" و"سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة".
ومن أعماله الأخرى: "عن الأدب الشعبي / دراسة " و"نصراوي في الساحة الحمراء / يوميات" و"صور من الأدب الشعبي الفلسطيني / دراسة "، حال الدنيا / حكايات فولكلورية".
كتب "أبو الأمين" للأطفال ولسجناء الحرية، لثورات الشعوب، لكوبا والجزائر، لمصر والعراق، ورفاقه في السودان وموسكو وغيرها. كان خطيبا ملهما في الأول من أيار "عيد العمال" ومهرجانات يوم الأرض والعديد من المناسبات الوطنية. بحسب زوجته نائلة صباغ "أم الأمين" التي تدير مؤسسة تحمل اسمه.
توفي توفيق زيّاد في 5 تموز/ يوليو عام 1994 بحادث مرور، وهو في طريقه لاستقبال ياسر عرفات عائدا إلى أريحا بعد "اتفاقيات أوسلو".
مأثوراته وأشعاره ومواقفه رغم مرور 26 عاما على رحيله، لا تزال تتردد في الناصرة وفي فلسطين من بينها قصيدته الأشهر:
أناديكم .. أشد على أياديكم.
أناديكم..
أشد على أياديكم..
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم.
أناديكم
أشد على أياديكم..
أنا ما هنت في وطني
ولا صغرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيما، عاريا، حافي
حملت دمي على كفي
وما نكست أعلامي
وصنت العشب الأخضرا
فوق قبور أسلافي
أناديكم... أشد على أياديكم!!
غسان كنفاني كان بندقية إبداعية وثقافية وسياسية، لم تعرف لها بوصلة سوى فلسطين، كانت وجهته دائما صوب "أرض البرتقال الحزين".
تأتي ذكراه دائما مع صيف تموز/ يوليو القائظ، لتذكرنا أشلاؤه التي تناثرت في منطقة الحازمية قرب بيروت، بأن ثمة شخصا ما يدق جدران الخزان، لم يعد "أبو قيس" و"أسعد" و"مروان" يكتمون صرخاتهم وأنفاسهم في خزان مياه "أبو الخيزران".
ذات صباح، زار غسان مخيم "عين الحلوة" في لبنان ووقعت عيناه على رسومات على الجدران، رسمها لاجئ صغير يدعى ناجي العلي، وقرر وقتها أن يأخذ رسوماته، لينشرها في مجلة "الحرية"، ومن هنا ولدت أيقونة أخرى في فضاء الإبداع العربي والفلسطيني.
غسان كنفاني، المولود في عكا عام 1939 إبداعيا، كان حزبيا، مثقفا، صحفيا، قاصا، روائيا، سياسيا، مناضلا، كاتبا للأطفال، شاعرا، رساما، عاشقا، مؤرخا، كاتبا مسرحيا، معلما، رب أسرة، صاحب قضية، وتوج كل ذلك بالشهادة؟
عاش غسان كنفاني طفولته في يافا التي اضطر للنزوح عنها كما نزح الآلاف من الفلسطينيين بعد نكبة 1948، وبعد رحلة نزوح طويلة من يافا، إلى عكا، إلى لبنان، إلى حمص، فالزبداني، استقر به الحال في بيت متواضع وقديم في حارات دمشق القديمة: الشابكلية وحي الميدان، وحي الشويكة، حيث شارك أسرته حياتها الصعبة. فعمل والده المحامي أعمالا بسيطة. أخته عملت بالتدريس. هو وأخوه صنعوا أكياس الورق، ثم عمالا، ثم قاموا بكتابة "الاستدعاءات" أمام أبواب المحاكم، وفي الوقت نفسه كان غسان يتابع دروسه الإعدادية.
وبعد أن تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتبا لممارسة المحاماة، أخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحيانا في التحرير الصحفي، واشترك في برامج في الإذاعة السورية، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
بدأ غسان حياته العملية معلما للتربية الفنية في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا). انتقل بعدها إلى الكويت عام 1956 حيث عمل مدرسا للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية. وفي هذه الأثناء عمل في الصحافة وظهرت بدايات إنتاجه الأدبي.
أقام في بيروت منذ عام 1960، وعمل محررا أدبيا لصحيفة "الحرية" الأسبوعية، ثم رئيسا لتحرير صحيفة "المحرر"، كما عمل في "الأنوار" و"الحوادث" حتى عام 1969 ليؤسس بعد ذلك صحيفة "الهدف"، التي بقي رئيسا لتحريرها حتى يوم استشهاده.
أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1952. في ذات العام التحق بكلية الأدب في جامعة دمشق، لكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، وما لبث أثناء عمله في الكويت أن انتسب من جديد لجامعة دمشق ونال شهادة في الأدب.
انضم غسان كنفاني إلى "حركة القوميين العرب" بناء على دعوة من جورج حبش (الحكيم) لدى لقائهما عام 1953. وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة "الهدف" وترأس تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
الأدب الذي أنتجه غسان كنفاني يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الفلسطيني، عبر رحلة اللجوء والمنافي. رحلة التشرد والقهر. رحلة المعتقلات، والمقاومة الذي كان غسان جزءا منها ومشاركا فيها كلاجئ وأديب ومثقف ومقاوم، فكتب روايتين ولم يكن عمره قد تجاوز 23 عاما، هما "أرض البرتقال الحزين" و"رجال في الشمس".
وأكثر رواياته تأثيرا في الأدب العربي وشهرة كانت "رجال في الشمس"، التي استوحاها من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت، وعكس فيها عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، وكانت ترمز وتصور لمعاناة الفلسطينيين في تلك الحقبة.
من أهم أعماله التي أصبحت ضرورة في الثقافة العربية: "عالم ليس لنا"، "موت سرير رقم 12"، "أرض البرتقال الحزين"، "رجال في الشمس"، فيلم "المخدوعين"، "أم سعد"، "عائد إلى حيفا"، "الشيء الآخر"، "العاشق، الأعمى والأطرش"، "برقوق نيسان"، "القنديل الصغير"، "القبعة والنبي"، "الباب"، "القميص المسروق"، "جسر إلى الأبد، "ما تبقى لكم"، "من قتل ليلى الحايك؟".
ومن الدراسات التي تركها كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين"، و"في الأدب الصهيوني"، و"الأدب الفلسطيني المقاوم"، وترجمت أعماله إلى 17 لغة، وانتشرت في جميع الدول العربية، إضافة إلى أكثر من 20 دولة أخرى.
توج غسان كنفاني مسيرته بالشهادة، تلك الشهادة التي كانت حاضرة في تفاصيل حياته القصيرة، فقد استشهد بعد انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته، حين كان برفقة ابنة شقيقته "لميس نجم" وعمرها 17 عاما. تناثرت أشلاء الشهيد مع الصغيرة لميس، وهي التي كانت أقرب إلى قلبه، حيث كان يكتب لها القصص ويهديها إياها في مناسباتها الجميلة، وكانت "القنديل الصغير"، واحدة من تلك القصص التي نشرت بخط غسان.
تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد والشاهد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء ونشوء المقاومة الفلسطينية.
عن الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى.. نقاش تاريخي هادئ
قلعة برقوق.. معلم تاريخي عريق شاهد على مجازر الاحتلال (شاهد)
"الأيوبي" يختار فلسطين ساحة لحربه ضد "الفرنجة"