ربما يكون الخلاف القائم حالياً بين عضوين مهمين في حلف الشمال الأطلسي "
الناتو" (
فرنسا و
تركيا)، وانقسام الدول الأعضاء بين مؤيد ومعارض للمنقلب المهزوم "خليفة حفتر" في الحرب الدائرة في
ليبيا؛ بداية
تصدع في صلب الحلف، فهل من الممكن لو تصاعدت وتيرة الخلافات بين أعضائه أكثر؛ أن يتحطم على الصخرة الليبية؟!
بل ربما يقودنا هذا التساؤل؛ لسؤال أهم: هل لا يزال لحلف "الناتو" جدوى، أو دور يلعبه بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، والذي من أجله أنشئ الحلف؟
قبل سبعين عاماً، قال اللورد "هيستنجز إسماي" الأمين العام الأول لحلف الناتو: "إن الحلف يهدف إلى بقاء الاتحاد السوفييتي خارج أوروبا، وأمريكا داخل أوروبا، وألمانيا داخل حدودها".
ولكن بعد مرور سبعين عاماً على تأسيس الحلف، ومرور ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب الباردة، ضاع هذا المفهوم ولم يعد تصريح "إسماي" صالحاً للاستعمال. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي لم يعد حال الحلف كما كان عليه منذ إنشائه، فقد اختلط الحابل بالنابل ولم يعد أعضاؤه على قلب رجل واحد؛ إذ تشابكت مصالح الدول الأعضاء وتداخلت مع عدو الأمس، كما نرى الآن في ليبيا وسوريا، وتوغلت روسيا في كلتا الدولتين، بتأييد من بعض دول الحلف نفسه، بل إن أمريكا نفسها قد غضت الطرف عن دخول القوات العسكرية الروسية للأراضي السورية، وبناء قاعدة عسكرية لها في "حميميم" خلافا لقاعدتها البحرية السابقة في "طرطوس"، وربما هي من أعطتها الضوء الأخضر للدخول إلى سوريا؛ لحماية النظام الأسدى، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وتولي نظام إسلامي الحكم مما يشكل خطراً على أمن الكيان الصهيوني..
وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى في حلف الناتو؛ تدعم روسيا في ليبيا التي تدخلها تحت مظلة مجموعة مرتزقة روسية مسلحة، يطلق عليها "فاغنر"، ويمدونها بالسلاح والمال لتمكين المنقلب "حفتر" من السيطرة على ليبيا ضد حكومة الوفاق، المعترف بها دولياً. وطبقاً لما رصده موقع "إيتاميل" الإيطالي، فان نحو 473 رحلة روسية هبطت في قاعدة حفتر الإماراتية في شرق ليبيا منذ شباط/ فبراير، ومنها تم مؤخراً
الهجوم على قاعدة الوطية المحررة من قِبل حكومة الوفاق والقوات التركية..
وهذا ما أكده أيضا "غسان سلامة"، المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، في حوار مع مركز "الحوار الإنساني" في جنيف.. لقد نطق الرجل بعد دهر من الصمت، متهماً بعض دول مجلس الأمن بالنفاق في الملف الليبي، وأن بعضها وجهت "طعنة في الظهر"، بدعمها العدوان الذي شنه حفتر على العاصمة طرابلس، وأن قادة هذه الدول لم يعد لديهم أي ضمير!
أما تركيا، وعلى النقيض من تلك الدول، تساند الحكومة الشرعية، من خلال اتفاقيات عسكرية أبرمتها معها، ومكنتها من السيطرة على العاصمة "طرابلس" والساحل الغربي، وألحقت بالمنقلب "حفتر" الهزائم المتوالية، مما أثار حفيظة داعميه وعلى رأسهم فرنسا، التي تطمع بأن يكون لها نصيب الأسد في بترول وغاز ليبيا. ومن هنا كان
الاشتباك الكبير بين باريس وأنقرة..
من المؤسف أن تصبح ليبيا ملعباً كبيراً تتصارع فيه الدول طمعاً بالفوز بثرواتها على حساب الشعب الليبي، الذي يدفع الثمن بدمائه!
تصاعدت حدة
الصراع بين فرنسا وتركيا في ليبيا، وتبادلا التراشق فيما بينهما بالتصريحات العدائية والمسيئة لكلا الطرفين، وتوجيه الاتهامات لبعضهما البعض..
فرنسا تتهم تركيا بانتهاك قرار الأمم المتحدة الخاص بحظر السلاح المفروض على ليبيا، بينما تركيا تتهم فرنسا بانتهاج سياسة منحازة في ليبيا، إذ أنها تغض الطرف عن انتهاكات كل من مصر والإمارات لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا لصالح المنقلب الخائن "حفتر"، وأنها تتعامل بشكل انتقائي في ليبيا بما يعزز الدعم المقدم لـ"حفتر"..
كما اتهمت الحكومة الفرنسية أنقرة باستهداف سفينة حربية فرنسية في البحر المتوسط، وهو ما
نفته أنقرة نفياً تاماً، واعتبرته مجافياً للحقيقة بل تجاوزاً في حقها؛ إذ أن السفينة التركية التي كانت تحمل المواد الطبية إلى ليبيا، هي التي تم إيقافها ومساءلتها ثلاث مرات في نفس اليوم، من قِبل سفينة يونانية وأخرى إيطالية وثالثة فرنسية، وهذه سابقة لم تحدث من قبل وتتنافى مع الممارسات المستخدمة داخل الحلف الأطلسي. فبروتوكولات "الناتو" للدول الأعضاء لا تسمح باستجواب بعضها البعض بهذه الطريقة، مما يعني أن هناك سوء نية مبيتة. كما أن المناوارات الفرنسية في البحر المتوسط كادت أن تعرض أمن السفينة التركية للخطر، على الرغم من أنها كانت تعمل في إطار مهمة الحلف الأطلسي..
وهذا أدى إلى انسحاب فرنسا مؤقتاً من العملية الأمنية المعروفة باسم "حارس البحر" التي أطلقها حلف الناتو قرب سواحل ليبيا..
كما ألمح مؤخراً المتحدث الرسمي للرئاسة التركية؛ لاحتمالية خروج تركيا من الحلف، وهو ما سيكون بالفعل بداية النهاية لأهم وأقوى تحالف عسكري في العصر الحديث. إذ إن تركيا تعد ثاني أكبر جيوش الحلف بعد أمريكا، هذا بخلاف موقعها الاستراتيجي، إذ أن تركيا هي همزة الوصل بين الشرق والغرب..
هناك مقال قى معهد "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" يشير كاتبه إلى ان الانفصال عن تركيا سيكون بمثابة إيذاء ذاتي متعمد لمصالح أمريكا في المنطقة. ويقول: "تركيا ليست الرئيس أردوغان فحسب، بل هي عملاق جغرافي واقتصادي في المنطقة، يؤدي الدور الفاصل بين أوروبا والشرق الأوسط وروسيا، لذلك فإن خسارة تركيا كحليف للغرب تعني وضع الشرق الأوسط على أعتاب الباب الأوروبي وإلغاء الحاجز المحتمل أمام النفوذ الروسي؛ بما يسمح لروسيا بالتوغل في قلب الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، تعد تركيا دولة في أفضل وضع يؤهلها لتحقيق التوازن مع إيران التي تتعاظم طموحاتها ونفوذها بالتزامن مع شراكتها مع روسيا. من هنا فإن المصلحة متبادلة بين البلدين، فمن دون الولايات المتحدة، ستصبح تركيا تحت رحمة طهران وموسكو".
وتركيا في عهد الرئيس "أردوغان" تدرك ذلك جيداً، فهي سياسياً وعسكرياً تبدو بالنسبة لروسيا من جهة، والولايات المتحدة وباقى دول حلف الناتو من جهة أخرى، قريبة وبعيدة في الوقت ذاته من كلا الطرفين، وخير دليل على ذلك؛ منظومة الدفاع الجوى "أس 400"، التي اشترتها تركيا من روسيا، فكانت بمثابة ضابط الإيقاع الذي يظبط العلاقة بين تركيا والكثير من حلفائها.
فعلى الرغم من اعتراض واشنطن الشديد وعقوبات الكونجرس عيلها، كذلك اعتراض حلف "الناتو"، إلا أن تركيا أصرت على قرارها والمضي قدماً في عقد الصفقة. ورد البنتاغون بخطوات أكثر حدة؛ إذ أعلن عن إبعاد تركيا من برنامج طائرات "إف 35" وإعادة متدربين عسكريين أتراك لبلدهم..
لم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة بين تركيا وحلف الناتو، فلقد اعترض حلفاؤها على العملية العسكرية "نبع السلام" التي قامت بها تركيا في شمال سوريا ضد قوات قسد التي تهيمن عليها الوحدات الكردية والتي تدعمها أمريكا لوجستياً وعسكرياً ومالياً، مما يشكل خطراً على أمن تركيا القومى. فتركيا تراها أذرعا لحزب العمال الكردستاني الإرهابي، الذي يريد الانفصال عن تركيا واقامة دولة خاصة بالأكراد، ما أدى لخلافات كبيرة بين واشنطن وأنقرة. وبعد تدخل أنقرة في الشمال السورى؛ اتخذ الكونجرس قرارات مشددة يفرض بها الكثير من العقوبات المالية والاقتصادية على تركيا..
واتسعت الفجوة بين أعضاء الناتو وتركيا، للدرجة التي طالب فيها وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بوقف تصدير الأسلحة إلى تركيا. ولقد أشارت استطلاعات رأي داخل عدد من دول الحلف؛ عن وجود رغبة شعبية في طرد تركيا من الحلف..
ولنلق نظرة سريعة على حلف الشمال الأطلسي؛ لتوضيح الأمور أكثر.
الحلف أنشئ عند التوقيع على معاهدة حلف شمال الأطلسي في 4 نيسان/ أبريل 1949، ويُعد أكبر تحالف عسكرى في العالم ويضم أقوى الجيوش وأكثرها تقدم (29 جيشاً)، تنفق حوالي 70 في المئة من حجم الإنفاق العسكري العالم. ويحتل جيش الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى من حيث العدد، إذ يصل عدد جنوده إلى مليون و338 ألف جندى، يليه الجيش التركي في المرتبة الثانية ويصل عدد جنوده إلى 435 ألف جندي، يليه الجيش الفرنسي في المرتبة الثالثة، الذي يصل تعداد جنوده إلى 208 آلاف جندي، بحسب إحصائية نشرها موقع "ستاتيستا" الأمريكي..
كان الهدف من إنشائه مواجهة حلف وارسو أثناء الحرب الباردة. وتنص المادة الخامسة من المعاهدة على أنه في حالة حدوث هجوم مسلح ضد واحدة من الدول الأعضاء ينبغي أن يكون هناك دفاع مشترك، ويجب أن يساعد الأعضاء الآخرون الأعضاء المعتدى عليهم بالقوات المسلحة إن لزم الأمر.
لقد كانت تركيا الحليف الأقوى للولايات المتحدة الأمريكية، ولعبت دوراً بارزاً خلال الحرب الباردة التي أدت في النهاية لسقوط الاتحاد السوفييتي وانتصار أمريكا ودول الغرب. أما الآن؛ وبعد أن تغيرت شروط اللعبة واختلطت الأوراق ببعضها البعض، فقد باتت ضرورية إعادة ترتيبها من جديد، وتوزيعها وفقا لما يحدث على أرض الواقع، ومواقف الدول الأعضاء في الحلف من مجريات الأحداث. إنها لعبة الأمم القديمة الحديثة التي تتغير قواعدها وقوانينها مع تغير الأزمنة وتبدل الأمكنة (الملاعب)!!
إنها بلا شك لحظة فارقة حيال مستقبل حلف الشمال الأطلسي..
twitter.com/amiraaboelfetou