في الحادي عشر من تموز/ يوليو عام 1995، قتل
الصرب عشرة آلاف مسلم بعد اقتحام مدينة سريبرنيتسا شرقي
البوسنة.. المدينة التي إذا عربنا اسمها فيمكننا أن نسميها المدينة الفضية. ويقال إن سبب ذلك أنها كانت غنية بمناجم الفضة في العصر الروماني.
يعيش فيها حاليا أكثر من 13000 نسمة، منهم 7000 مسلمون (54 في المئة) و6000 صرب (45 في المئة). وعندما نقارن هذه الأرقام مع نظيرتها قبل الحرب، نجد أن سريبرنيتسا حسب إحصاء 1991 كان يسكنها 36 ألفا؛ شكل المسلمون 75 في المئة منهم والصرب 23 في المئة. أي أن
المسلمين فقدوا 20 ألفا بين قتيل ومهاجر ونازح، في حين ضاعف الصرب وجودهم في المدينة بعد السيطرة عليها؛ بجلب سكان من مدن أخرى للعيش في سريبرنيتسا.
خمسة وعشرون عاما مرت، لم يندمل الجرح، وكل يتكسب منه ويصطفي ما يناسبه من دروس المذبحة، أو بالأحرى ما يبرر به مسؤوليته عن هذه الجريمة التاريخية.
أوروبا ذات الوجهين.. وجه حالي اعتبر مذبحة
سريبرينيتسا "واحدة من أكبر
المذابح في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية". هذا الوجه الآن يدعو إلى "استخلاص الدروس" و"العمل على ضمان عدم تكرار مثل هذه الإبادة الجماعية مرة أخرى".
لكن الوجه الحقيقي ظهر من 1992 إلى 1995 بفشل أوروبي ذريع في وقف الحرب البوسنية، بسبب وقوف فرنسا وبريطانيا إلى جانب الصرب ودعم ألمانيا للكروات، ثم لخصت هولندا الأخلاق الأوروبية الرفيعة بتسليم سريبرنيتسا إلى قوات صرب البوسنة لتقوم بذبح المسلمين، رغم أن السرية الهولندية كانت مسؤولة عن حماية المدينة كمنطقة ضمن خمس مناطق آمنة في البوسنة بقرار من مجلس الأمن صدر عام 1993.
تخشى أوروبا الآن وخاصة ألمانيا عودة مذبحة سريبرنيتسا، ليس للحفاظ على أرواح البشر أو بقاء المسلمين آمنين في البلقان، وإنما من أجل مصلحة سياسية بحتة تتمثل في "قطع الطريق على المتطرفين والشعبويين حتى لا يكتسبوا قوة في المجتمع"، حسب ما جاء في فعالية عقد هذا الأسبوع في مدينة دورتموند الألمانية لإحياء ذكرى مذبحة سريبرنيتسا.
لقد عاش مسلمو البوسنة في البلقان نفس التجربة الأليمة في أربعينيات القرن الماضي، لكنهم لم يتعلموا الدرس فحصلت مذبحة سريبرنيتسا في تسعينيات القرن الماضي.
المدينة الفضية رمز يلمع لمن أراد أن يتعلم من التاريخ، وإلا فإن المذبحة ستتكرر في كل زمان وفي أي مكان، أيا كان.. اليمن، سوريا، ليبيا.
الفارق يكمن في أن المسلمين قبل ربع قرن كانت لديهم بقايا نخوة ترجمت في رغبة قادة المسلمين، أمثال الشيخ زايد رحمه الله، في مساعدة مسلمي البوسنة أو غيرهم من المنكوبين، لكن اليوم
أبناء زايد يقتاتون على دماء المسلمين مرتين، مرة بمساعدة الصرب قتلة المسلمين في سريبرنيتسا باسم الاستثمار، ومرة في اليمن وليبيا من أجل طمع وحقد ضد كل من يسعى إلى الحرية.
حتى في البوسنة، استغل السياسيون المسلمون المذبحة بالمشاركة في إحياء ذكراها في النصب التذكاري المخصص لذلك كل عام من أجل جمع أصوات الناخبين، وفشلت محاولات ذوي ضحايا المذبحة في منعهم من حضور هذه الفعاليات.
ويستغل مسؤولو صرب البوسنة نفس المذبحة لنفس الغرض،
لكن بإنكارها ومنع إحياء ذكراها. وقد باتت المدينة
إداريا تقع تحت سيطرتهم، فيدرس أبناء المسلمين هناك منهجا مدرسيا صربيا يجعل من قتلة آبائهم وأجدادهم أبطالا، بل إن مسلمي البوسنة الذين يعيشون في مناطق فيدرالية البوسنة والهرسك لم تستطع أن تتضمن برامجهم التعليمية أي شيء عن مذبحة سريبرنيتسا بسبب اعتراض صرب وكروات البوسنة، بل واعتراض أوروبا، من أجل "نسيان الماضي" داخل البوسنة، أما في دورتموند فدعوة لـ"ألا ننسى
الإبادة الجماعية في سربرينيتسا".
لم يعد لذوي الضحايا ملجأ يهرعون إليه، فقد أرادوا لفت نظر العالم إلى ما جرى لهم، فاستخدموا مصطلح محرقة، في إشارة إلى أن ما حدث لهم له هو نفس ما فعله النازيون في اليهود في الحرب العالمية الثانية، لكن اليهود اعترضوا وحذروا من أي مقارنة بين محرقتهم ومذبحة المسلمين.
لم يبق لأهالي سريبرنيتسا إلا يوم الحادي عشر من تموز/ يوليو من كل عام؛ يرثون فيه أنفسهم ويتذكرون ذويهم، ويشيّعون ما تجمعه هيئة البحث عن المفقودين من رفات تنتشلها فرق العمل في المقابر الجماعية التي ألقى فيها الصرب جثث القتلى، وبلغ عددها 536 مقبرة، ولا تزال الهيئة تعمل على البحث عن 1200 جثة، حسب رئيسها عمرو ماشوفيتش الذي يقوم بهذا العمل بدون كلل على مدى ربع قرن.
سيدفن أهالي سريبرنيتسا بعد أيام رفات مئتي شخص. ورفات تعني أنها ليست جثثا كاملة، و82 شخصا فقط تم التعرف على هويتهم من خلال تحليل الحمض النووي.
ورغم فيروس كورونا ستجري فعاليات إحياء المذبحة وسط احتياطات خاصة بعد أن عاود الفيروس الانتشار في البوسنة من جديد، لكن الجديد المؤلم بالنسبة لي هو أنني لن أستطيع الحضور بعد أن تعودت على ذلك طوال ربع قرن.
في كل سنة كنت أتعلم شيئا جديدا من أمهات سريبرنيتسا الصامدات وسط مثلث كئيب؛ أركانه وجع الماضي، وحاضر يخوضون فيه حربا صامتة مع قتلة أحبائهم، ومستقبل ضبابي لا عدل فيه ولا صديق.