تتهافت اليوم كل القوى الإقليمية والدولية في وتيرة متسارعة من أجل حسم الملف الليبي في هذا الاتجاه أو ذاك. لا تتوقف التصريحات والتصريحات المضادة ولا تتأخر المساعي الدولية والعربية التي تجري على الأرض حثيثة من أجل الظفر بنصيب من المشهد ومن المغانم الاستراتيجية الكبيرة.
منذ البداية شكّلت ليبيا مسرحا للتنازع الدولي والنفوذ الإقليمي بسبب ضخامة المساحة ووفرة الثروات وقلة عدد السكان والموقع الاستراتيجي الهام بإطلالته على البحر المتوسط ووقوعه في رأس القارة الإفريقية. تمثل هذه الخصائص والامتيازات التي تحظى بها ليبيا مقارنة بغيرها من الدول العربية والمغاربية السبب الأساسي وراء التكالب العالمي على المشهد ووراء الأطماع الخفية والمُعلنة.
مدار الصراع
لم تكن ليبيا تمثل خلال أكثر من نصف عقد هاجسا دوليا ولا كانت مصدر قلق وتوجس إقليمي أو دولي إلا من بعض شطحات القذافي ومغامراته الهزلية التي كان الغرب والشرق يعلم مغزاها والمقصد منها. كانت تصريحاته ومغامراته ككل حاكم شعبوي محاولات بائسة لجذب الأنظار وإلهاء العوام بالشعارات البراقة والخطب العنترية والفضائح الإقليمية. كان القذافي في المخيال الدولي مهرجا مضحكا ترك له العالم فتحة صغيرة يعبر من خلالها عن مكبوتاته الأقرب إلى الهذيان والجنون منها إلى القرار المسؤول والدبلوماسية الدولية.
كان الأمر في ليبيا مستتبا كما هو الحال في تونس ومصر وسوريا وغيرها من دول سايكس بيكو، إذ كانت الثروات والنفط والموارد الطبيعية تتدفق بسلاسة نحو بنوك الغرب ونحو مصانعه دون تعطيل يُذكر. كان الحاكم العربي محميا بالعصابات الدولية وبالقانون الدولي والمؤسسات الأممية من كل محاسبة أو عقاب عندما يبطش بشعبه أو ينكل به طوال عقود من المجازر والقمع والتعذيب.
إن تراجع المليشيات نحو بنغازي سيحسن من قدرة حكومة الوفاق على التفاوض ومنع الأجندات الخارجية من فرض نفسها على الثورة الليبية.
لكن اندلاع الثورات كان إعلانا يهدد بتغير المعادلة وتوقف تدفق النفط والثروات. إنّ إمكانية قدرة الشعوب العربية على التحكم في مصيرها وثرواتها وإنتاج شكل سياسي يقطع مع القمع ويؤسس لنهضة حضارية هو الذي يخيف مجاميع المتآمرين على ليبيا وعلى ثورات الشعوب. بل إن الخوف الأكبر هو أن تمتدّ هذه العدوى إلى دول المشرق والدول المغاربية جميعا بشكل تخسر معه القوى الدولية ووكلاؤها العرب مصدرا أساسيا من مصادر الرخاء والثراء.
إنّ إمكانية زحف الديمقراطية في المنطقة العربية بشكل تنجح فيه الشعوب في أن تصبح سيّدة مصيرها وثرواتها هو الهمّ الأكبر الذي يؤرق عرابي الفوضى والانقلابات والإرهاب في البلدان العربية.
فشل الرهان العسكري
لابد من التذكير بأنّ القذافي ولجانه الثورية هما أوّل من فرض على الليبيين حمل السلاح عندما كوّن كتائبه وجلب المرتزقة من إفريقيا وأوروبا الشرقية لإخماد ثورة شعبه. تطوّر المشهد بعد ذلك إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين قوات القذافي وقوات الثوار إلى حدود فرض مجلس الأمن حظر طيران على ليبيا انتهى بهزيمة القذافي ومليشياته.
بعد ذلك نجح حفتر في التسلل إلى المشهد وتمكّن عبر الدعم الإماراتي والروسي والسعودي والفرنسي والمصري من اكتساح مناطق شاسعة من ليبيا وصولا إلى أبواب العاصمة طرابلس. لكن صمود الثوار ووصول الدعم التركي عبر اتفاقية الدفاع المشتركة قلب المعادلة العسكرية على الأرض فتحرّر كل الغرب الليبي وصارت قوات الحكومة الشرعية على أبواب سرت وقاعدة الجفرة.
اعتمد الرهان الانقلابي العسكري في ليبيا على كل القوى غير القانونية من المليشيات والمرتزقة والجماعات الإرهابية ممثلة في فرق المداخلة، كما اعتمد على الخبراء والضباط والقناصة من دول مختلفة. وليست الجرائم البشعة التي ارتكبتها مليشيات حفتر مثل المقابر الجماعية والقتل على الهوية والتعذيب والخطف والاغتيال ونبش القبور إلا قطرة في بحر الجرائم التي وثقتها المنظمات والهيئات الدولية.
إن التصريحات المصرية و الموقف المخجل لرئيس تونس من المسار في ليبيا إلى جانب تآمر الإمارات والسعودية على حكومة الوفاق توجب عليهم أكثر من أي وقت مضى الحذر من كل المبادرات والاقتراحات العربية التي تعمل بالوكالة لأجندات دولية.
الثابت اليوم هو أن كل الثقل العسكري الدولي الذي ألقت به غرف الانقلابات العربية في ليبيا لم ينجح رغم أن الثوار بقوا يقاتلون سنوات طويلة جيوش ست دول على الأقل دون أن ينجحوا في دخول العاصمة طرابلس. لا ننسى في هذا السياق أن المجتمع الدولي كان يغض الطرف عن هذه العمليات رغم عدم قانونيتها ورغم خرقها للمواثيق الدولية ورغم كل الجرائم وهو ما يجعل منه طرفا متورطا في إدامة أمد الصراع وفي محاولة الانقلاب على الثورة.
يؤكد المشهد الليبي أيضا قدرة الثورات المسلحة وقدرة الشعوب على تحصين نفسها مهما كان حجم الجيوش الغازية ومهما كانت مواردها. وهو الأمر الذي يؤكد أنّ التهديدات المصرية الأخيرة بالتدخل العسكري في ليبيا لن يكون مصيرها مغايرا لمصير الجيوش العازية الأخرى. بل يمكن القول إن محاولة بعض الدول توريط الجنود المصريين في المحرقة الليبية ليست إلا سعيا لتطبيق مبدأ الأرض المحروقة بعد فشل محاولة الانقلاب على ثورة فبراير.
الإكراه السياسي
فجأة صار الجميع بما فيهم دول الجيوش الغازية المتواجدة على الأرض الليبية يؤكدون فشل الخيار العسكري، وأنّ الحل في ليبيا لا يمكن أن يكون إلا سياسيا. بعضهم يريد العودة إلى مخرجات مؤتمر برلين والبعض الآخر يطرح عدم الخروج عن اتفاقية الصخيرات المغربية في حين يرى عرّابو الانقلاب ضرورة دعم المبادرة المصرية التي رفضتها حكومة الوفاق جملة وتفصيلا.
في هذا الإطار كان الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية في محاولة من نادي النظام الرسمي العربي تدارك الموقف ومحاولة إنقاذ الانقلابي حفتر ومشروع الاستبداد الجديد المراد هناك. إن هرولة القوى الدولية والعربية للحل السياسي ليست رأفة بشعب ليبيا ولا بحثا عن إنهاء الفوضى والاقتتال هناك وهي التي كانت سببا أساسيا فيه. إن تسارع هذه القوى إلى طاولة المفاوضات يكشف أولا عن قناعتها بعجز حفتر عن تحقيق أي نصر على الأرض. كما يكشف أيضا عن خوفها من أن تتجاوزها الأحداث على الأرض وتخسر كل المجهودات التي بذلتها من أجل أن تنال نصيبا من الثروة الليبية.
تحاول الجماعة إذن أن تُدرك بالسياسة والمفاوضات ما عجزت عن إدراكه بقوة السلاح والمرتزقة والمليشيات. هذا الاتجاه الجديد يمكن أن يكون أشد خطرا من العمليات العسكرية بسبب قدرة هذه القوى ونفوذها الكبير في أروقة المؤسسات الدولية وخبرتها في المناورة وتفخيخ الاتفاقيات والقرارات بشكل قد يُعسّر من قرب الوصول إلى حلّ سريع في ليبيا.
إن الانتصارات التي حققها شعب وشباب ليبيا على الأرض وما دفعوه من ثمن كبير لدحر الانقلاب والانقلابيين يوجب عليهم مواصلة دحر المليشيات وطردها نحو الغرب. إن تراجع المليشيات نحو بنغازي سيحسن من قدرة حكومة الوفاق على التفاوض ومنع الأجندات الخارجية من فرض نفسها على الثورة الليبية. إن التصريحات المصرية والموقف المخجل لرئيس تونس من المسار في ليبيا إلى جانب تآمر الإمارات والسعودية على حكومة الوفاق توجب عليهم أكثر من أي وقت مضى الحذر من كل المبادرات والاقتراحات العربية التي تعمل بالوكالة لأجندات دولية.
سياسة القاهرة تجاه ليبيا.. فشل يورث الندامة
هل تدفع الإمارات مصر إلى الغرق في ليبيا وشرق المتوسط؟
ليبيا.. زلزال ميداني ومآلات سياسية غامضة