هناك شعورٌ عامٌّ متزايد، حتى بين السوريين، بأنَّ المجتمع الدولي سلَّم بأنَّ الطريق إلى التسوية السياسية في سوريا أصبح مسدودا إلى أن: يتم اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا على كيفية الحل، تتوصل كل من الولايات المتحدة وإيران إلى صيغة مقبولة للتعايش، اتخاذ الدول العربية مبادرة جماعية للتسوية في سوريا، يتمكن العرب وتركيا من التفاهم على ترتيب يحقق التوازن في مصالحهم في المنطقة.
فإذا كان هذا هو الحال، فالأرجح أننا سننتظر طويلا. ولكنَّ هناك طريقا آخر لتسريع الحل السياسي في سوريا، وذلك فيما إذا قرر المجتمع الدولي، ولا سيما الدول الفاعلة على الساحة السورية، أن يعكسوا هذا المنطق ويصلوا إلى تفاهم على أسلوب مبتكر للمضي قدما في تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، على أساس أن التسوية في سوريا ستفتح الباب أمام حلحلة بعض المشاكل الإقليمية وحتى بين الدول الإقليمية والقوى الكبرى.
إن سجل قرارات مجلس الأمن الدولي يعكس تخبطا
في التنفيذ، حيث نُفذت بعض القرارات ولم يتم تنفيذ البعض الآخر، وحتى تلك التي
نفذت لم تنفذ بالتسلسل الوارد في القرار أو خلال الإطار الزمني المنصوص عليه.
فيما يخص القرار 2254 الخاص بسوريا فما زال
مصيره غير واضح. فهناك أمل في تنفيذه حتى إذا لم يتم بالتسلسل الوارد في القرار،
وبالتأكيد ليس في الإطار الزمني المنصوص عليه. وذلك لتحقيق الهدف الأساسي منه إلا
وهو أن يحقق الشعب السوري تطلعاته في تقرير مستقبله، من خلال انتخابات حرة ونزيهة
تدار تحت إشراف الأمم المتحدة.
إن القرار 2254 يوفر إطارا عاما للتسوية
السياسية في سوريا يتضمن العناصر التالية: وقف إطلاق النار بالتوازي مع مفاوضات
تؤدي إلى نظام حوكمة ودستور جديد يجري على أساسه انتخابات، على أن يتم ذلك في بيئة
تتمتع بوقف إطلاق للنار مع التصدي لظاهرة الإرهاب، وتدفق المساعدات الإنسانية،
والإفراج عن المحتجزين والمختطفين، وعودة اللاجئين وبدء عملية إعادة الإعمار.
9
فيما يخص وقف إطلاق النار على كافة الأراضي
السورية، فقد خفَّت حدة القتال بشكل ملحوظ في معظم أرجاء البلاد، ولا يبقى سوى
استكمال الترتيبات في منطقة إدلب وشمال شرقي سوريا، من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق
النار الشامل.
وفيما يتعلق بمسألة الحوكمة، فإنَّ الصيغة
الأكثر منطقية هي تقاسم السلطة بين الحكومة والمعارضة. وللأسف لم يتم استكشاف بشكل
جدي إمكانية التوصل إلى صيغة مقبولة بهذا الشأن. فمن جهة لم تكن المعارضة قابلة
لأي شيء سوى تشكيل هيئة حكم انتقالي، الهدف منها الإطاحة بنظام الحكم السائد، ومن
جهة أخرى لم يذهب مفهوم الحوكمة لتقاسم السلطة إلى مدى مقبول. وعلى الرغم مما تقدم
لا تزال هناك فرصة للوصول إلى صيغة مقبولة للحوكمة، من خلال عملية الإصلاح
الدستوري.
والآن، لم يعد هناك مناطق محاصرة أو مناطق
صعبة الوصول إليها. هناك فقط مناطق حدودية خارجة عن سيطرة الحكومة. وللأسف فإنَّ
تلك المناطق ضحية لخلاف بين معظم الدول المانحة التي ترى أن تمر المساعدات عبر
الحدود وبين الحكومة التي تصر على أن توجه المساعدة من خلالها. ويمكن علاج هذه
المسألة في إطار مجموعة شاملة من الإجراءات لتنفيذ القرار 2254.
ففيما يتعلق بتدابير بناء الثقة، فهناك حاجة
إلى مجهود ضخم، حيث لم تسفر عملية آستانة إلا عن تقدم ضئيل بشأن إطلاق سراح
المحتجزين من قبل الحكومة والمختطفين من قبل المعارضة. فلم يتم إطلاق سوى العشرات
من قبل الحكومة والمعارضة.
أما فيما يخص المكافحة الفعالة للإرهاب، فإنَّ
ذلك يتطلب معالجة جذوره، وهي عملية طويلة ومعقدة. ولذلك ما ينبغي أن يكون أولوية
للمجتمع الدولي هو وضع حد للدعم الخارجي للإرهابيين داخل سوريا. وفي هذا الصدد،
يجب تنفيذ قراري مجلس الأمن 2170 و2178 لعام 2014 تنفيذا صارما، على أن يبدأ ذلك
في إدلب.
أما العملية السياسية فقد أصبحت تتمحور حول
عملية الإصلاح الدستوري من خلال إنشاء اللجنة الدستورية، التي أصبح لديها الآن
جدول أعمال متفق عليه. وفي ضوء أن الدستور الحالي يحدد عام 2021 موعدا لإجراء
الانتخابات الرئاسية، فمن الضروري أن تنهي اللجنة الدستورية أعمالها في توقيت يسمح
بتنظيم الانتخابات في الموعد المحدد، وذلك على أساس أن تنعقد الانتخابات الرئاسية
والبرلمانية في توقيت متزامن بعد استكمال عملية الإصلاح الدستوري، الذي يمكن أن
ينتج عنها دستور معدل أو جديد حسبما تتفق اللجنة الدستورية.
ففي الوقت الذي تم إحراز تقدم متفاوت في تنفيذ
عناصر القرار 2254، فإن مسألة الانتخابات لم تحظَ بأي تقدم. ووفقا للقرار، تجري الانتخابات
على أساس دستور جديد (أو معدل طبقا لمراجع استناد اللجنة الدستورية)، وتقوم الأمم
المتحدة بالإشراف على إدارتها، على أن يشارك فيها جميع السوريين المؤهلين للتصويت،
بما في ذلك الشتات.
جدير بالتنويه أن الانتخابات التي تجري تحت
إشراف الأمم المتحدة تتطلب الكثير من التحضير والوقت، فبداية هناك حاجة إلى
الاتفاق على ماذا يعني بالضبط «الانتخابات التي تدار تحت إشراف الأمم المتحدة» في
الحالة السورية. فليس هناك نموذج واحد لكيفية إدارة الأمم المتحدة للانتخابات،
ولكن هناك معايير تتقيد بها الأمم المتحدة، لذلك يتعيَّن على الأمم المتحدة
والحكومة أنْ تتفقا على صيغة مقبولة تراعي احترام السيادة السورية.
كما ينبغي حل مسألة الشتات، هناك ملايين
السوريين يعيشون خارج بلدهم، أغلبيتهم العظمى ليس بإرادتهم. كيف سيتم تسجيلهم وأين
سيصوتون؟ هي أيضا مسألة جوهرية. ولا شك أن الحكومة ستصر على ضرورة أن تشارك في
عملية التسجيل، وهذا حقها السيادي. ولكن الأهم من ذلك فمن المنتظر أن تصر الحكومة
علي أن يتم التصويت على الأراضي السورية الخاضعة لسيطرة الدولة أو في السفارات
السورية في الخارج.
وفي ضوء أنه من المنتظر أن يعترض معظم هؤلاء
اللاجئين يتعيَّن التوصل إلى حل وسط يكفل لهم ممارسة إرادتهم الحرة، ولكنَّه يحترم
في نفس الوقت السيادة السورية. ولذلك يجب على الأمم المتحدة والحكومة إنجاز مثل
هذا الاتفاق في أقرب فرصة بما يسمح بعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية خلال
2021.
كما أنَّ مصداقية قوائم الناخبين عامل إضافي
لضمان حرية ونزاهة الانتخابات، وهذه عملية معقدة في الأصل، وستكون أكثر تعقيدا في
الظروف التي تعيشها سوريا منذ 2011، ومن ثم ستتطلب جهدا ضخما، ولذلك فمن الأهمية
البدء في هذه العملية دون تأخير.
ولدفع الأمور إلى الأمام، لا بد من إحراز تقدم
في أعمال اللجنة الدستورية وبالتوازي الشروع في الإعداد للانتخابات القادمة، غير
أنَّ ذلك يتطلب توفير حافز لدفع الحكومة في أنْ تكون أكثر تعاونا مع الأمم
المتحدة، وربما يكون إعادة الإعمار الحافز المطلوب، والذي أصبح أكثر إلحاحا في ضوء
التدهور السريع الذي يشهده الاقتصاد السوري.
ومن هنا تأتي فكرة التوصل إلى حزمة تتضمن
العناصر التالية: الانتهاء من عملية الإصلاح الدستوري في أقرب فرصة ليتسنى إجراء
الانتخابات في وقتها المحدد في عام 2021. وإطلاق سراح المحتجزين والمختطفين،
والتحرك الملموس في تنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بشأن مكافحة الإرهاب، وعودة
اللاجئين، والالتزام بالتحرك السريع في التحضير للانتخابات، وأخيرا وليس آخرا
الاتفاق حول عملية إعادة الإعمار. كما يجب أن يكون هناك ترتيب يضمن توفير
المساعدات الإنسانية لجميع السوريين، بغض النظر عن مكان إقامتهم.
إنَّ مثل هذا الترتيب المتكامل، كما ذكرت في
مقال سابق، يمكن أن يستند إلى نهج يعتمد على محفزات تدريجية: رفع تدريجي للعقوبات،
وتطبيع تدريجي للعلاقات الخارجية لسوريا، وتوفير الأموال لإعادة الإعمار، مقابل
اتخاذ دمشق خطوات لبناء الثقة (مثل إطلاق سراح المحتجزين، وتيسير عودة النازحين،
وما إلى غير ذلك...)، والأهم القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية تسمح بعقد انتخابات
نزيهة وحرة.
في رأيي ليس هناك بديل يلبي تطلعات الشعب
السوري سوى التنفيذ الخلاق للقرار 2254. ويتعيَّن على مجلس الأمن الدولي ودول
المنطقة أن تضع خلافاتها جانبا، وأن تجدد التزامها بتنفيذ القرار على وجه السرعة.
إني على يقين أن هناك من يرى أن استمرار الضغط
الاقتصادي على دمشق سيؤدي إلى التغيير السياسي المنشود. الواقع أنَّه ليس هناك أي
سابقة تشير إلى نجاح مثل هذه السياسة، بل على العكس كانت النتيجة في الحالات
المماثلة مزيد من المعاناة للشعب الذي كان يراد إنقاذه في المقام الأول دون تحقيق
التغيير السياسي المنشود.
فلا شك أن هذا التصور لتنفيذ القرار يشكل
تحديا كبيرا محفوفا بمخاطر هائلة. ولكن البديل في استمرار الوضع القائم سيكون له
تبعيات أسوأ بكثير: سوريا مدمرة وشعبها الأبي سيحكم عليه أن يعيش لسنوات، إن لم
يكن لعقود في حالة من انعدام الأمن والظلم والبؤس، ناهيك عن شرق أوسط أكثر اضطرابا.
وختاما فعلى المجتمع الدولي والحكومة السورية
حسم خياراتهم من أجل مستقبل سوريا.
(الشرق الأوسط اللندنية)