تدور أحداث
الرواية،
الصادرة عن منشورات الربيع 2018، في حقبة السيادة البريطانية المصرية المشتركة على
السودان، مطلع القرن العشرين، حين كان الاسم الرسمي لبلاد السودان هو (السودان
الإنجليزي المصري).
تعود الرواية إلى
بواكير اللقاء بين الشمال والجنوب على أرض السودان، وتحاول أن تؤسس لعلاقة تصالحية
بين عقلانية الشمال المتمدّن، ولاعقلانية الجنوب البدائي.
وبالعودة إلى بدايات
اللقاء بين مجتمعين مختلفين كل الاختلاف، تسعى الرواية إلى اقتراح صيغة أكثر
إنسانية، وأقل صدامية، من الصيغة التي قدمتها رواية (موسم الهجرة للشمال) للطيب
صالح، وهي الرواية العلامة في الأدب السوداني العربي الحديث.
اختارت الرواية شخصية
شاب إنجليزي عادي، لتكون جسراً يمتدّ بين حضارتين، تلتقيان عبره لتشكلا نموذجاً
إنسانياً فريداً، يجمع أحسن ما في الحضارة الأوروبية من صفات، إلى أحسن ما في الحضارة
الجنوبية من صفات، أو يأخذ من كلا الحضارتين ما يكمّل النقص في الأخرى.
يدين بطل الرواية
(جلبرت أوسمان) للصدفة وحدها في قراره السفر إلى أرض السودان. فهو ليس إلا شاباً
يعيش حياة "روتينية قاحلة" في لندن، متوسط التعليم، ومتوسط الطبقة
الاجتماعية، محدود الطموح. يجد نفسه ملزماً بخوض مغامرة السفر إلى أرض السودان
التي لا يعلم عنها شيئاً، وذلك نتيجة دخوله في تحدٍ طائش مع صديقه العسكري الذي
جرّد من رتبته العسكرية، وطرد من الخدمة بسبب رفضه للخدمة في أرض السودان.
يتوجه (أوسمان) إلى
أرض السودان مسلحاً بعزيمة التحدي، والرغبة بكسر الروتين، إضافة إلى بعض المعارف
التي استقاها من كتب الرحلات الأفريقية، وتتحدث عن الوثنيين آكلي لحوم البشر، وعن
عادة ختان الإناث المنتشرة في بلاد الفراعنة، وبعض الكلمات العربية الشائعة،
والنصائح العملية التي تلقاها من مستشرق يدعى (هارولد سامسون) كان يدير منظمة لمحاربة
الرق في أرض السودان، لكنه اتخذ منها غطاء للمتاجرة بالرقيق.
لا تخذل التجربة
السودانية توقعات (أوسمان) بخوض مغامرة مثيرة، بل إن أرض السودان تتكشف له عن
عادات اجتماعية، وأنماط عيش تقليدية، وشخصيات محلية، ما كان يتوقعها. وتهزّ هذه
العادات والأنماط والشخصيات كيانه بعمقها الإنساني، ومحمولها الثقافي. ويجد نفسه
منقادة إلى إدراك هذا العمق، ولمس قيعانه.
ومع إصراره على اكتشاف
أسرار المجتمع السوداني من جوانبه الدينية والطقوسية والعرقية والطبقية، يعيد
(أوسمان) اكتشاف نفسه، ويجد في روحانية الثقافة السودانية، ودفء علاقاتها
الإنسانية، وعاطفية الشخصية السودانية، وانفلاتها من قيود الضوابط المدنية، يجد ما
يعوض به النقص في ثقافة المجتمع الإنجليزي.
وحيداً في بقعة ضالة
من الأرض، يجد (أوسمان) نفسه في بلد بدائي، تسوده الفوضى، وتقوده الخرافات، ويحتكم
الناس فيه إلى القوة وطقوس العنف والقوانين القبلية في حل خلافاتهم، والمرأة فيه
إما أمَة أو مومس أو زوجة مقهورة. والرجل فيه إما عبد ذليل، أو تاجر مستغِل، أو
وجيه قبلي تقليدي، أو زعيم روحي مكرِّس للخرافات والغيبيات.
ويدير هذه الفوضى
البدائية الهائلة مستعمرون أوروبيون، تنضح عقولهم ونظراتهم وأفعالهم بالعنصرية
والقمع تجاه أبناء البلاد، يحتكرون السياسة والإدارة والتجارة وممارسة العنف،
ويستغلون جهل المجتمع بقيمة الإنسان، فيشترون العبيد ويبيعونهم.
يختار (أوسمان) طريقاً
آخر غير طريق المستعِمر في معايشة أبناء البلاد. طريقاً يقوده إلى فتح قلبه لتاجر
الإبل البدوي الذكي (سيف القبيلة) فيغدو صديقه المقرّب، متجاوزاً العوائق الكبيرة
التي تحول دون صداقة رجلين من ثقافتين مختلفتين تمام الاختلاف، لكنّ الصدق والنبل
والوفاء للجوهر الإنساني الواحد يجمعهما.
يرفض (أوسمان) القبول
بالأفكار المسبقة التي يحملها المستعمر الأوروبي عن أبناء البلاد، بل ويرفض أن
يصنّف في خانة المستعمر التي تمليها سحنته الإنجليزية، وبشرته البيضاء، ولكنته
الغريبة. فيسعى منذ اللحظة الأولى لعبوره حدود أرض السودان إلى تغيير جلده، فيخلع
اللباس الأوروبي، ويلبس الجلباب السوداني ويضع العمامة البيضاء، ويحرص على زيادة
حصيلته اللغوية من الكلمات العربية، وفهم كل عبارة ينطقها السودانيون مستعيناً
بخدمات صديقه (سيف القبيلة).
يتمسك (أوسمان) بصفة
المغامر الباحث عن الحقيقة في أرض السودان، ويقوده بحثه إلى تغيير مظهره تغييراً
كاملاً، بما في ذلك اسمه الذي يتحول إلى اسم محلّي هو (عثمان الزمزمي). لكنه يصل
إلى القناعة بأن تغيير المظهر وحده لا يكفي ليفتح له مغاليق المجتمع السوداني.
يطرأ تحول جذري على
شخصية (أوسمان) حين يتبنى قضية الفتاة السودانية الغريبة الأطوار المسماة (شرفية)،
ويرى في قضيتها باباً للنفاذ إلى الجانب اللاعقلاني في الثقافة السودانية، وهو
الجانب الذي يعيق خروج المجتمع من بدائيته المزمنة.
تتمثل في (شرفية)
المعتقدات الخرافية كلها، إذ يؤمن السودانيون بأنها فتاة من الجن، فيحيطونها بهالة
أسطورية من الكراهية والخوف، لكنّ (أوسمان) يقتحم هذه الهالة ليكتشف بؤس هذه
الفتاة، وأنها ضحية ظلم اجتماعي كبير، وقع عليها بشكل خاص لأنها مولودة لقيطة.
وبتبنيه لقضيتها، يسعى
(أوسمان) إلى تغيير النظرة الدونية نحو المرأة في المجتمع السوداني، التي تحصر
المرأة في وظيفة المتعة الجنسية والإنجاب والخدمة المنزلية.
ويدرك أن وسيلته إلى
تغيير هذه النظرة لن تثمر إذا كانت استعلائية وصدامية. وهنا يقرر (أوسمان) اعتناق
الإسلام أولاً، ثم الزواج من (شرفية).
وباعتناقه الإسلام
اعتناقاً صحيحاً بمباركة مشايخ الطريقة الصوفية السودانية، وزواجه من (شرفية)
زواجاً تقليدياً في حفل كبير، يكون (أوسمان) قد غير جلده وقلبه معاً، ولم يعد
يربطه بأصوله الإنجليزية إلا السحنة البيضاء، والذكريات البعيدة، الخالية من
الحنين إلى عائلته وأصحابه وحياته في لندن.
الرواية بمجملها تصور
رحلة استكشاف، يحدوها الفضول المعرفي، والرغبة في الفهم والتواصل، بعيداً عن
الأفكار المسبقة التي يأتي المستعمر وهو مشحون بها.
تقطع الرواية الطريق
على رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، وتنفي شخصية (أوسمان) المبررات لوجود شخصية
معقدة مثل شخصية (مصطفى سعيد).
بساطة (أوسمان) ووضوح
شخصيته وأخلاقيته المثالية، تقع على النقيض من شخصية (مصطفى سعيد) الملتوية
السلوك، والمركبة المشاعر، والمزدوجة المعايير، والمثقلة الضمير. ولعل رواية (أرض
السودان) صدرت عن شعور لدى كاتبها بالإشفاق على بطل (موسم الهجرة إلى الشمال)،
فأرادت أن تحرره من تبعات التاريخ
الاستعماري السيئة، وتقترح بصيغة "ماذا لو" مآلات أخرى لاستعمار عقلاني
إنساني تصالحي، لا عنصرية فيه، ولا قهر، ولا استغلال.