عندما يواجه الناقد الأدبي أو مؤرخ الأدب قضية معينة، يجمع الافتراضات الممكنة حولها، ثم يرجّح بينها بحسب ما لديه من شواهد، ويتبنى أكثر الفرضيات قرباً، صانعاً رأيه حول قضيته.
ومن نافلة القول أن الناقد قد يصيب وقد يخطئ، وكثيراً ما تكشف معلومات لاحقة صحة الفرضية التي تبناها أو زيفها، وهذا شيء من طبيعة النقد والتأريخ.
في معالجة جملة سليم بركات الواردة في مقاله "محمود درويش وأنا" والتي نقلها على لسان درويش أنه باح له "لي طفلة. أنا أبٌ.لكن لا شيء فيّ يشدّني إلى أبوّة"، فإنّ ما يهمّ ناقد الشعر المهتمّ بدراسة محمود درويش ليس اتهام سليم بركات بخيانة صديقه بإفشاء سره أو تبرئته من الخيانة، وإنّما يهمه أن يضمّ هذه الفرضية إلى ما لديه من فرضيات حول علاقة الشاعر بالمرأة والعائلة، ثم أن يحاول الترجيح بينها في ضوء الشواهد المتوفرة لديه، بما يفيد لاحقاً في إضاءة ما يتصل بهذه الناحية من شعره.
لدى الناقد، هنا، جملة منقولة عن صديق مقرب جداً للشاعر (وهذه حقيقة تاريخية وليست افتراضاً فقد امتدت صداقة الشاعرين أكثر من ثلاثة عقود وعمِلا معاً سنين طويلة)، جملة تنقل على لسان الشاعر بأن لديه ابنة حقيقية من علاقة بامرأة متزوجة. هذه الجملة بحد ذاتها تحتمل الصدق والكذب سواء من قائلها أو ناقلها.
قد يكون درويش صادقاً في ادّعاء وجود ابنة له، ولهذا تبعات أخلاقية كبيرة آثر من تصدّوا للردّ على سليم بركات تجاهلها تماماً رغم نصبهم محاكمات أخلاقية لبركات، ورغم البون الشاسع أخلاقياً بين إفشاء سرّ صديق وبين خداع رجل آخر وطفلة في ما يتعلق بأبسط حقوقهما الإنسانية من معرفة الوالد بابنته والابنة بوالدها الحقيقي.
وقد يكون درويش اختلق قصة وجود ابنة له، كما يفعل كثير من الرجال للدفاع عن فحولتهم عندما تكون موضع شك.
فهل كانت فحولة درويش موضع شك؟ هناك شواهد قد تشير إلى ذلك، منها فشله في الزواج مرتين، وعدم إنجابه من كلتا الزوجتين. ومنها إعلانه دوماً أنه ليس رجل عائلة وأنه لا يود إنجاب الأطفال.
اقرأ أيضا : جامعة أمريكية تستحدث كرسيا يحمل اسم محمود درويش
هذا الإعلان قد يكون تعبيراً صادقاً عن واقع، وقد يكون دفاعاً لاواعياً عن الذات. وحتى في الجملة التي نقلها بركات هناك توكيد أنّ رفض الأبوّة هو من طرف الشاعر (لا شيء فيّ يشدّني إلى أبوّة)، فكأنّه يوصد باب الكلام على الموضوع مباشرةً لحظة فتحه.
لقد أحاط درويش نفسه بهالة الشاعر الفرد الذي لا توائمه أجواء العائلة ومسؤولياتها، ولا يمكنه الاستقرار أو الاستمرار في علاقة زوجية، رغم شهرته بغراميات كثيرة يشهد عليها كثيرون من مقرّبيه، وقد سرَدَ غيضاً من فيضها شربل داغر في الفصل الذي عنونه بـ"محمود درويش: العاشق الدائم والزوج المستحيل" من كتابه "محمود درويش يتذكر في أوراقي" (2019).
من الجائز أن يكون خيار عدم تكوين عائلة خياراً مهنياً للشاعر لتركيز كل طاقاته على مشروعه الشعري كما فعل كثيرون من المبدعين الكبار في مجالات مختلفة، ومن الجائز أن يكون ذلك تحايلاً دفاعياً للالتفاف إلى مشكلة خاصة.
والحقيقة أن دخول درويش في الزواج مرتين يرجح أن الأمر لم يكن خياراً بقدر ما كان عدم قدرة على إنجاح مشروع العائلة.
إذن، صدق درويش حول وجود ابنة له احتمال قائم، وعدم صدقه احتمال قائم أيضاً وعليه شواهد قد تجعله أكثر رجحاناً.
كذلك صدق سليم بركات وعدم صدقه في نقل الجملة احتمالان قائمان، مع أنّ الأرجح عدم وجود مصلحة لبركات في اختلاق القصة والمجازفة بإعلانها خصوصاً أن عائلة الشاعر موجودة وأصدقاءه كثر.
ومن اللافت أنّ أحداً ممّن ردّوا على بركات لم يتّهمه بالكذب، وإنما اكتفوا باتهامه بخيانة صديقه بإفشاء سره.
بل إنّ بعض هؤلاء ذكر أنّ درويش قد تحدث بكلام مشابه أمام أصدقاء آخرين غير سليم بركات (وهو ما قد يرجّح فرضية اختلاق درويش للقصة)، ولكن على ما يظهر فإنّ هؤلاء الأصدقاء إمّا أنّهم لم يأخذوا كلام درويش على محمل الجدّ، أو أنهم صدّقوه ولكنهم آثروا كتمان سره.
أياً تكن الفرضية التي يرجحها الناقد من بين هذه الفرضيات أو غيرها، فذلك عائد إليه وإلى ما توفر لديه من شواهد وأدلة، أما إطلاق الشتائم وكيل الاتهامات وإجراء محاكمات أخلاقية لسليم بركات فليست من مهام الناقد الأدبي، وإن بدا أنّ كثيراً من النقاد يجنحون إلى ذلك من باب الحميّة أو الاستسهال.
جامعة أمريكية تستحدث كرسيا يحمل اسم محمود درويش