الكتاب: أشهد أن لا إله إلا أنت.. سيرة ذاتية
المؤلف: الدكتور عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للنشر ـ دمشق 2018
ينبغي دائما أن نميز في المذكرات بين التي تصدر عن مسؤول سياسي أو حزبي والتي تصدر عن مثقف أو مفكر أو أديب، فالأول، يستثمر آخر عمره، ليقدم روايته، أو يبرئ ذمته، فيكشف عن اسرار لم يكن من الممكن كشفها زمن التحفظ، أو يريد أن يساير لحظة صفاء ضميره وهو يستقبل آخر أيامه، أما المثقف أو المفكر أو الأديب، فالمذكرات يكون لها طعم آخر، فليس في حياة هؤلاء صخب السياسي ولا تحولات موقفه، ولا الأحداث المتصارعة التي يواجهها، فهؤلاء تكون لهم حياة خاصة، بتحولاتها وتجاربها، وغالبا ما تحكمها رؤية تظل حاضرة في محطات العمر المختلفة، وتدور مختلف الأحداث عن الابتلاءات والمحن التي ترتبط بتمثل الرؤية أو تبني الفكرة أو حمل المبدأ، وصور من الصمود والمقاومة أو لحظات المراوحة والشعور بالضعف.
ينبغي الإقرار هنا، أن مذكرات المفكر الكبير الدكتور عماد الدين خليل، هي من طابع خاص، وخاص جدا، لأن الأمر لا يتعلق بمفكر عادي، وإنما يتعلق برجل أكاديمي صلب، رسخ في حقول معرفية كثيرة، في دراسة التاريخ وتفسيره، وفي تقديم رؤية معيارية للأدب الإسلامي، وفي التأصيل العميق لقضايا الفكر الإسلامي، وفضلا عن هذا وذاك، فالرجل، لم يغادر محراب الجامعة، مفضلا الدرس الأكاديمي والبحث العلمي، رافضا عددا هائلا من المناصب والعروض والمواقع التي يتلهف إليها كثير من الناس.
الأمر يتعلق، برجل أكاديمي صهرته الفكرة الإسلامية، وظل وفيا لها في كل كتاباته، بل نظر لها، في فترة صعبة، كان الدعاة والمفكرون يروحون فيها بسبب معتقداتهم ومواقفهم، فاختار عماد الدين خليل في بيئة العراق الاستبدادية ألا يداهن السلطة وألا يراعي بطشها فيما يكتب من أدبيات غالبا ما كانت سلطات بغداد تصادرها، بل كان أحيانا يلح على مواجهتها فكريا في الوقت الذي يطلب فيه الغير الأمان.
مذكرات كتبها المفكر الإسلامي في سن قاربت على الثمانين، في خمسة أجزاء، ضمنها مسار حياته، ومساره المهني والأكاديمي، وخطه البحثي، ونضاله الفكري، وأحلامه وآلامه ومعاناته الشديدة مع التدخلات الجراحية التي تعرض لها، فضلا عن المشاريع التي انتظم فيها، وما بدل وما غير في قناعاته الفكرية، ولا استهوته المغريات المالية، ولا الانتظام في مشاريع الغير من أجل متاع من الدنيا قليل.
تضم المذكرات إلى جانب ذلك معطيات مهمة عن تاريخ العراق السياسي، ومحطات كثيرة من الصراع على الحكم، ومختلف التوترات السياسية التي حصلت والانقلابات التي عرفتها العراق، فضلا عن العلاقات التي تحكم القوميين بالشيوعيين بالإسلاميين، والتحالفات والتحالفات المضادة التي حدثت للوصول إلى شأفة التحكم والهيمنة على الدولة.
مذكرات يكشف عنوانها عن هويتها وطابعها، فلأول مرة تصدر مذكرات بإعلان الشهادة: "أشهد أن لا إله إلا أنت" فتختصر حياة رجل صهره المبدأ وظل طوال حياته منضبطا له، محاولا ما تكون المحاولة ألا يحيد عنه في كل تصرفاته ومخرجاته الفكرية الإبداعية.
عماد الدين والانفلات الرابع من التنظيم
ترسم مقدمة المذكرات صورة عن مبادئ الرجل، لمحات عن شخصيته، رؤيته والمبدأ الذي حمله ودافع عنه، ومفتاح شخصيته، بما يحب وما يكره، صموده من أجل مبدئه، صور من ضعفه وتراخيه، ومعاناته في نصرة رسالته التي يؤمن بها في مختلف محطات حياته، وعدم تغييره ولا تبديله، وزهده في المناصب، واختياره المبدأ والفكرة على الرضوخ للمغريات المالية الضخمة، كما ترسم أيضا حيويته وجديته في الدراسة والبحث الأكاديمي والتدريس والانتظام في المشاريع العلمية الواعدة، وفي العلاقات البحثية الجدية، وفي الصداقات الأكاديمية، كما ترسم هذه المقدمة الخصبة درجة الحرية والاستقلالية التي تتمتع بها شخصيته.
يحكي في القسم الأول من مذكراته مراودة تنظيم الإخوان المسلمين له في العراق أكثر من مرة وانتمائه إليه أربع مرات، استقلالية وحرية، واضطراره في كل مرة للانفلات والتحرر من التنظيم، فيحكي عن انتظامه الثالث في الإخوان، سنة 1960، وكيف التحق أيضا بالحزب الإسلامي عند إنشائه، وكيف كان يتطلع وقتها للاعتقال ومعانقة السجن، وكيف كان يتشوف لخوض تجربة الصمود على المبدأ، وأنه كان يتعمد إنشاء خطب حماسيةو نارية ويلقيها في المظاهرات ويخوض معارك فكرية واحيانا معارك جسدية مع القوميين والشيوعيين في الجامعة، وكيف كان يتداعى الجميع إلى تأديب الشيوعيين في رمضان لما كانوا يعتصمون في مقصف نمادي الكلية ويفطرون جهارا نهارا في رمضان.
من المثير الذي رواه الدكتور عماد الدين خليل أنه يوم حقق أمنيته التي كان يعد لها لعشرين سنة من البحث والشقاء، ونال الدكتوراه، وأقبل الناس عليه ليقدموا التهاني والتباريك، شعر بحزن شديد لم يجد له ما يبرره، وأنه لم يفهم سر ذلك إلا بعد حين، بعد أن اكتشف أنه بنيله للدكتوراه فقد المبرر والداعي الذي جعله طيلة عشرين سنة مرتبطا بهدف يريد تحقيقه،
ذكر الدكتور عماد الدين قصة انتمائه الثالث إلى الإخوان، تحت رئاسة أكرم ضياء العمري، وأنه كان يحرص على حضور كل الاجتماعات الجماهيرية للحزب الإسلامي ولا يفوت مواعيده التربوية مع اسرة الإخوان التربوية، وكيف قرر أن يكتب تقريرا مفصلا عن فكر الإخوان ومواقفهم كان يقصد من ورائه توجيه القيادة وترشيدها لعلها بذلك تحدث تعديلا في الفكر والخط، القصد منه تعديل المسار والخط، فقام بتسليمه إلى رئيس الجلسة، ليتبين له من بعد مرور الأسابيع الطوال أن التقرير لم يبعث أصلا إلى القيادة فغادر الجماعة للمرة الثالثة.
ثم ما لبث أن انتمى إلى الجبهة الإسلامية التي تشكلت في العراق أصلا لتجاوز أخطاء الإخوان المسلمين وتضم الفصائل المختلفة داخل الإخوان، لكن بسبب من مشاكل تنظيمية واختراقات أمنية تعطل هذا التنظيم، فأصبح المفكر طليقا للمرة الرابعة متحررا من أي تنظيم.
يفسر عماد الدين خليل أسباب هذا النزوع إلى الحرية والتفلت من التنظيم، إلى كونه كان يرى نفسه على أقصى يسار الحركات الإسلامية، وكان يعتقد أن ينطلق قطار الدعوة بأسرع سرعة وان يقطف الثمار سريعا، فكان يصيبه الإحباط بسرعة، فيقوده إلى اتخاذ مواقف قد لا تكون مبررة مطلقا
الحزن لعدم الاعتقال
يحكي عماد الدين طرفا ملفتا بالانتباه، ففي سفره لاجتياز امتحان التطبيق لخريجي كلية التربية، اعترضت الحافلة التي كان يستقلها دورية أمن، فقامت بتفتيش الجميع، فعثروا في محفظته على منشور يعود للإخوان المسلمين يحرض على نظام عبد الكريم قاسم، فتم اقتياده إلى التحقيق، ثم بعد ذلك اقتادوه إلى بيته من أجل تفتيشه، ومن حسن الحظ أن الذي رافقه للبيت كان ضابطا في الأمن له صلة وثيقة بوالده، فتظاهر بتفتيش غرفته، وطمأن والده، ثم اقتاد عماد الدين خليل لاستكمال التحقيق، وألقي به في السجن ريثما يصدر القرار بشأن المحجوزات التي وجدت معه، فشعر بفرحة شديدة لأنه كان يتمنى الاعتقال وينتظره ويترقبه، فدخل عنبر الشيوعيين فطردوه، ثم دخل عنبر القوميين فرحبوا به، وما هي إلا فترة قصيرة حتى صدر أمر بالإفراج عنه، فحزن حزنا شديدا لذلك، لأنه حرم نعمة السجن التي كان يتوق إليها منذ زمان. ولما خرج من هذه المحنة طالعته أخبار سارة عن تصدره المرتبة الثانية ضمن الناجحين في قسم التاريخ..
عماد الدين خليل يتحسر على مواقف الإسلاميين من حكم قاسم الأخير
تساءل عماد الدين خليل بحرقة كبيرة عن صحة الموقف الذي اتخذته القوى الإسلامية والوطنية لما أقدمت على الإطاحة بحكم عبد الكريم القاسم، وهو الذي اختار في السنتين الأخيرتين من حكمه الابتعاد عن كل الطوائف، وتبني رؤية وطنية عراقية جامعة، رؤية الأب الحنون للعراق، وبعد أن أنتج سياسات قومية واضحة تراعي مصالح الضعفاء والفقراء، وكيف قبل الإسلاميون أن يتورطوا في هذا المسعى وهل كانت فورة الشباب وقلة الوعي السياسي سببا في تحريكهم في هذا الاتجاه الخطأ، كما يستذكر الخطأ نفسه في تعامل الإسلاميين مع العهد الملكي وتشجيع الثورة عليه.
ومن المثير الذي رواه الدكتور عماد الدين خليل أنه يوم حقق أمنيته التي كان يعد لها لعشرين سنة من البحث والشقاء، ونال الدكتوراه، وأقبل الناس عليه ليقدموا التهاني والتباريك، شعر بحزن شديد لم يجد له ما يبرره، وأنه لم يفهم سر ذلك إلا بعد حين، بعد أن اكتشف أنه بنيله للدكتوراه فقد المبرر والداعي الذي جعله طيلة عشرين سنة مرتبطا بهدف يريد تحقيقه، وأن هذا الهدف سيتبخر بعد نيل بالدكتوراه ولن يعود هناك أي حافز لبذل ما بذله طيلة عقدين من الزمن من الجد والمثابرة العلمية.
كتابة التقارير الأمنية عن عماد الدين خليل
تقدم مذكرات عماد الدين خليل معطيات مهمة عن فترة ثورة البعثيين سنة 1968، وكيف بدأ حزب لا يضم أكثر من تسعمائة شخص، وسارع الخطى للهيمنة على الحياة كلها في العراق، واحتواء الشخصيات العامة والفكرية والأكاديمية والإعلامية، وكيف اتجه إلى هيئات التدريس بالجامعة واتحادات الطلبة ما بين سنة 1969 و1977، وكيف بدأت مرحلة كتابات التقارير بالأساتذة والكيد والتحرش بهم وتخويفهم حتى يسقطوا في شبكة حزب البعث.
كان الموقف من الدكتور عماد الدين خليل هو رفض التدجين والاحتواء ورفض الحضور في أي تظاهرة يستدعى لها أي مسؤول سياسي أو حزبي، بل لم يكتف بذلك، بل خصص محاضراته للهجوم على الفكر القومي العلماني ونقد مرتكزاته، ثم بالانخراط المدروس في إلقاء محاضرات في نقد الفكر الماركسي الشيوعي لاسيما بعد الإعلان عن الجبهة القومية والوطنية الديمقراطية التي ضمت الشيوعيين إلى البعثيين، وكيف تسبب ذلك في إصدار القيادة المحلية للشيوعيين في الموصل قرارا بإعدام الدكتور عماد الدين خليل اينما وجد.
ويحكي الدكتور عماد الدين خليل كيف باح له أحد أصدقائه بخبر ورود تقارير أمنية كثيرة وكثيفة على صهره وهو مسؤول في الأمن، تحذر من الدكتور عماد الدين خليل، ومن انتمائه إلى الإخوان ومن خطورته على حزب البعث، تقارير تتحرش به وتفبرك أخبارا غير صحيحة عنه، وأنه كان يلقي بهذه التقرير إلى القمامة ولا يوجهها إلى المعنيين بالأمر.
هذا وقد قسم الدكتور عماد الدين خليل مذكراته التي كتبها في خمسة أجزاء إلى ثلاثة أقسام، خصص الأول لرحلته في الحياة، فيما خصص الثاني لرحلته مع الكلمة، وتناول في الثالث رحلته في الأسفار، فاستعرض في القسم الأول عشرة فصول من مسار حياته (السنوات المبكرة من حياته غطت مراحل دراسته التي اختصرت مراحل دراسته ما قبل الجامعية، ثم مرحلة دراسته الجامعية مع ما صاحبها من أحداث إلى نيله الماجستير والدكتوراه، فمرحلة التحاقه بالتدريس بالجامعة، ثم مساره المهني وتحوله في عدة مواقع تدريسية ومكتبية وأثرية وتراثية، ثم تدريسه بدبي والأردن ثم عودته للتدريس بالموصل).
وخصص القسم الثاني لمسار إنتاجه لمؤلفات قاربت 100 عنوان وذلك منذ سنة 1970، إلى جانب إنتاجاته الإبداعية والأدبية والنقدية، واختتمت المذكرات لعرض مفصل لرحلات الدكتور عماد الدين خليل إلى سوريا ولبنان ومصر ثم فرنسا وإسبانيا. ويقدم المؤلف معطيات تفصيلية عن عدد المشاركات التي شارك فيها، وعدد العروض التي تقدمت إليه، وعدم الطلبات والمقترحات التي رفضها، وعدد الجوائز التي نالها، ولجان التحكيم التي شارك فيها، فضلا عن مراسلات لكبار المثقفين والأدباء والنقاد تبادل معهم النقاش والحديث، فضلا عن تسجيل مواقف العديد من المفكرين والمثقفين والأدباء منه ومن إنتاجاته الفكرية والأدبية والنقدية.
نهاية الحداثة اليهودية.. كتاب عن الفرق بين الأديان والاحتلال
المكانة الإقليمية لتركيا حتى عام 2020: دراسة مستقبلية (1من2)
أبو زيد الإدريسي.. مراجعات في تطوير الفكر السياسي الإسلامي