أثارت تصريحات رئيس
مجلس الشورى الإسلامي الجديد محمد باقر قاليباف الكثير من ردود الفعل. فهو تعهد
بمواصلة نهج قاسم سليماني، معتبرا أن "تنامي قدرات محور المقاومة والفصائل
المدعومة"، من إيران في لبنان وفلسطين والعراق واليمن، سيكون ضمن أجندة
البرلمان الحالي.
كذلك توعد بالانتقام
لمقتل حليفه السابق قاسم سليماني، وباستكمال طرد الجيش الأميركي من المنطقة تماما.
وأين ستكون هذه الحرب التي بعد بها ضد الأميركيين؟ طبعا في البلدان المذكورة.
ومثل هذه التصريحات
ليست جديدة، فلقد دأب المسؤولون الإيرانيون على إطلاقها في مناسبات عدة، متجاهلين
تماما أن هذه التصريحات محرجة "لوكلاء" إيران المعتمدين.
ينطلق هؤلاء المسؤولون
من نقطة الارتكاز الأساسية التي تتبعها إيران منذ نشأتها وهي "تصدير
الثورة". فإيران الإسلامية تعطي لنفسها الحق في أن تحمي حدودها ضد كل ما
تعتبره "تدخلا خارجيا في بلادها"، ويعتبر كل معارض للنظام الإسلامي
خائنا وعميلا. فيما لا تعتبر و"كلاءها" عملاء لها في بلادهم! فهي تنشط
باسم "الجامعة الشيعية" التي تهدف لا إلى التنسيق بين الطوائف الشيعية،
بل الاستحواذ عليها من أجل إرساء إسلام شيعي شامل هدفه أسلمة العالم.
من الملاحظ هنا أن
لإيران وجهان، أحدهما سلوكها "كدولة قومية" بالمعنى الحقوقي والقانوني
المتعارف فتحمي حدودها بشراسة وتتهم الآخرين بالاعتداء على سيادتها عند أقل
معارضة؛ بينما تكسر هذه القاعدة مع الخارج لتتصرف كخلافة أو سلطنة على الطريقة العثمانية
أي تعود لنموذج الدول ما قبل الوطنية. فلا تكتفي بتخطي حدود الدول بل وتجند أتباعا
وترسل مستشارين ومقاتلين وأسلحة وعتادا.
وهي منذ قيام الثورة
الإسلامية درجت على دعم قضية الشعب الفلسطيني لاسترجاع "حقوقه كاملة"
بما في ذلك تحرير القدس التي أضاعت طريقها في شوارع العواصم العربية. إن رفع راية
"المقاومة" كان حصان طروادة الذي سمح لها بالتغلغل في العالم العربي.
وتحت نفس العنوان، جهزت "حزب الله" في لبنان ودربته ومدته بالأسلحة
والمعدات وجعلته ينفذ كل ما يلزم لخدمة مصالحها.
استغلت إيران نفوذها
وعلاقتها مع الشيعة في لبنان من أجل الضغط على الغربيين، فنفذت عدة عمليات مختلفة
خدمة لمصالحها، مثل تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت، ومقر السفارة الأميركية
وخطف الرهائن الأجانب.
لكن ظلت هذه السياسات
كتومة وحذرة إلى أن انفجرت الثورة السورية، فانكشف تدخلها السافر في الدفاع عن
نظام آل الأسد بشراسة. لكن الملفت أيضا أنها أوكلت المهمة إلى "حزب
الله" وغيره من الفصائل، غير الإيرانية، التابعة لها.
وهذه ثابتة أخرى من
ثوابت السياسة الإيرانية، والتي عززت من أجلها "الخريطة الشيعية"، لأنها
تفضل الاعتماد على الطوائف الشيعية غير الإيرانية ـ بالمعنى الحرفي ـ الهزارة في
أفغانستان والشيعة في جنوب لبنان... أكثر من اعتمادها على جماعات إيرانية عرقيا.
تدخلها السافر في
لبنان بدأ منذ حرب 2006، حين أبدى وزير خارجيتها منوشهر متقي عدم رضاه على القرار
الدولي 1701، الذي جهدت حكومة فؤاد السنيورة على إقراره حينها بعد الاستغاثة
الملحّة من "حزب الله"، كي ينقلب عليه بعد أيام قليلة ويصف الحكومة
بالعميلة للخارج.
ومنذ ذلك الحين تصدر
تصريحات مباشرة، تتناول الوضع اللبناني الداخلي، فلا تحترم أيا من المعايير
الدبلوماسية المعتمدة دوليا. "فالكرامة" منتج حصري إيراني!
ومن الأمثلة ما صرّح
به حيدر مصلحي في 2 أبريل 2015، وزير الاستخبارات السابق، أن "إيران تسيطر
فعلا على أربع عواصم عربية كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتانياهو"..
أيضا اضطر رئيس
الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري إلى التصريح، في 24 أكتوبر2017، أن لبنان لا
يقبل الوصاية وأنه يرفض تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي تساءل بثقة:
"هل من الممكن اتخاذ قرار حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا
والخليج، من دون أخذ الموقف الإيراني في الاعتبار؟"..
كذلك ما إن أعلنت
نتائج الانتخابات في لبنان في العام 2018 حتى أعلن قاسم سليماني فوز "حزب
الله" بها، مصرحا أن "حزب الله حقق نصرا كبيرا، وحصد 74 مقعدا في
البرلمان اللبناني من أصل 128". الأمر الذي تنصل "حزب الله".
وتصريحات المسؤولين في
هذا الاتجاه لا تتوقف، ففي أواخر العام 2019 نقلت وكالة "ميزان"
الإيرانية، تصريحا لمستشار قائد الحرس الثوري الإيراني مرتضى قرباني، قال فيه إنه
"في حال ارتكبت إسرائيل أصغر خطأ تجاه إيران، فإن إيران ستسوي تل أبيب
بالتراب انطلاقا من لبنان"!
الأمر الذي اضطر
نصرالله إلى القول إنها تصريحات مزعومة وإن بعض الجهات الخارجية تعمل على تحريف
أقوال المسؤولين الإيرانيين وإن هناك خطأ في الترجمة، بهدف تحريض بعض اللبنانيين
على طهران وإحراج حكومة بيروت و"حزب الله". مؤكدا أن "إيران سترد
بنفسها على كل من يعتدي عليها، ولا توافق على أن يدافع عنها حلفاؤها".
لكن الترجمة الخاطئة
تبدو شغالة باتجاهين، فلقد كشف موقع "فردا نيوز" الناطق باللغة الفارسية
عن تصريحات مثيرة أدلى بها الأمين العام لـ "حزب الله" خلال لقائه مع
مسؤولين إيرانيين مقيمين في لبنان تتعلق بأسباب قتال الحزب في سوريا. قال
"نصر الله" خلال اللقاء: "نحن لا نقاتل من أجل بشار الأسد، نحن
نقاتل من أجل التشيع، ولولا "حزب الله" وإيران لسقطت سوريا، الشيعة
اليوم في ذروة قوتهم بالمنطقة".
وأكد "نصر
الله" في حديثه أن "ولاية الفقيه" مكانتها فوق الدستور اللبناني،
وتنفيذ أوامرها واجب إجباري، مُعتبرا أن اعتقاد "حزب الله" بولاية
الفقيه يفوق اعتقاد بعض الإيرانيين وأنهم يعتبرونها "طاعة المعصوم".
غالبا ما يفشل نصرالله
في لملمة الإحراجات التي تتسبب بها إيران لحلفائها، كما حصل عندما زار رئيس مجلس
النواب الإيراني السابق علي لاريجاني لبنان فجأة في فبراير الماضي ومن دون إعلان
مسبق، منتقلا من دمشق إلى بيروت؛ ذلك أن خبر الزيارة أتى من السفارة الإيرانية في
لبنان. وجاءت هذه الزيارة في وقت كان "حزب الله" يجهد للتأكيد على أن
الحكومة الجديدة ليست حكومته.
أما آخر المآثر في هذا
المجال فكان رفع نصب تمثال ضخم لقاسم سليماني في منطقة مارون الراس الجنوبية،
يظهره مشيرا بإصبعه نحو الحدود الإسرائيلية. وعدا عن أنه "Acte manqué" بحسب التحليل
الفرويدي، أو حصرم في حلب بحسب التحليل الشعبي. يبقى أنه يشكل بدوره خرقا لكافة
المفاهيم والأعراف والقوانين اللبنانية والدولية. وأثار جدلا وانتقادات واسعة في
الأوساط السياسية والشعبية. ما جعل الوزيرة السابقة مي شدياق تتساءل: أنحن في
لبنان أم في إيران؟
للنظام الإيراني
وجهان، واحد سياسي سلطوي والآخر أيديولوجي. على غرار النظام السوفياتي، سلفه
التوتاليتاري. إذ لا فرق بين دولة دينية ودولة ذات أيديولوجية. من هنا سياسة المزج
والفصل في وسائل العمل، في آن واحد.
فديبلوماسية الدولة
تجهل أو تتجاهل وسائل التخريب والإرهاب التي تمارسها أجهزة الاستخبارات الإيرانية
في العالم. وفي الوقت نفسه يندمج الجهازان على مستوى القرار الخاضع للأجهزة
الأمنية.
السمة البارزة الأخرى،
اهتمامها بالداخل على حساب الخارج عبر من تسميهم "وكلاء". فنجد أن
تصريحاتها لا تأخذ بعين الاعتبار لا مصلحة هؤلاء ولا ماء وجههم. ضاربة عرض الحائط
الإحراج الذي قد يقعون به تجاه شعوبهم. لأن همّها استقرار الداخل الإيراني لكسبه
ودغدغة شعوره القومي ولطمأنته إلى أنها لا تزال دولة قوية قادرة على الهيمنة
والتوسع.
وفيما تعد معارضي
نظامها، خونة وعملاء، لأنهم ضد سياساتها، نجدها تعتبر معارضة وكلائها لدولهم
وشعوبهم بطولة ومقاومة لإسرائيل، التي لم تسفر سوى عن السماح لها باستغلال الوهن
العربي لترسيخ احتلالها لبقايا فلسطين.
وآخر أمثلة هذا
التقليل من شأن المتعاملين معها الصورة التخيلية التي تظهر وكلاء طهران في الشرق
الأوسط وتراتبيتهم عندها. صحيح أنها وضعت نصرالله في المقدمة لكنها جعلت الأسد في
الصف الرابع مطأطأ الرأس كالذليل. وفيما حشرت عماد مغنية بين الأحياء، احتفظت
بالسماء لرسم قاسم سليماني كغيمة سماوية تظللهم جميعا. ما حدا بصحيفة لو موند إلى
أن تعنون "البروباغندا الإيرانية، كراهية إسرائيل واحتقار الأسد". مع أن
تشديد لو موند على فكرة كراهية إيران لإسرائيل دون مبرر.
النهار اللبنانية