مشهد قتل المواطن الأمريكي
جورج فلويد خنقا تحت قدم شرطي أشعل شوارع بعض الولايات الأمريكية غضبا، لتصل بعض
العواصم الأوربية تضامنا مع الضحية.
آخر كلمات الضحية "لا أستطيع
التنفس" أصبحت شعار الغاضبين على سياسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة،
وضد شعبوية الرئيس ترامب بهجومه المستمر على وسائل الإعلام، وتهديده بإطلاق يد
الشرطة والجيش باتجاه الغاضبين، واعتقال الصحفيين وتأجيج النار على وسائل التواصل
الاجتماعي أثناء الجائحة العالمية لفيروس كورونا، ما دفع ببعض الأمريكيين لوصف
ترامب بـ"النرجسي الخبيث الذي يشكل خطرا على شعبه وعلى العالم" وأن
"سياسته مقدمة لتشكيل الفاشية الجديدة في أمريكا".
سخرية جمهور الطاغية العربي، تشفيا بما حدث
للضحية فلويد، ومن رد فعل ترامب على الشارع، لا ترتبط برفض عنف السلطة ولا حوادث
القتل، بل تسخر من زيف الديمقراطية التي يتغنى بها الأمريكي والأوروبي، ومن تأكيد
على حق السلطة أو النظام العربي باستخدام كل وسائل القمع والقتل والتدمير، للحفاظ
على مكتسبات النظام القائم والمرتبط بفردية رأس النظام، وأحقيته في الدفاع عن
نفسه. والأكثر سخرية بيانات عربية وإيرانية وروسية وكورية، تطالب باحترام كرامة الشعب
الأمريكي من الانتهاك المريع الذي تتعرض له بسبب تصاعد وتيرة العنف في الشارع وطرق
مواجهته.
بعض تبريرات ترامب على ما يحدث في الشارع تشبه
إلى حد بعيد تبريرات الطغاة في المنطقة العربية؛ عن المدسوسين والمخربين وحتى
المؤامرة.
كل ما قيل سابقا عن شعار الديمقراطية
والمواطنة والحرية هو محض هراء.. هكذا يصور إعلام ونخب النظام الرسمي العربي واقعة
مقتل جورج فلويد، مع أن ردود الفعل على ما حدث اجتاحت المجتمع الأمريكي بنخبه
وسياسييه، ودفعت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لوصف ما حدث بأنه جريمة قتل مع
سبق الإصرار.
آلاف من الصور والأفلام المشابهة بفظاعتها
ومأساتها خرجت من مدن وأزقة وزنازين عربية.. داست بساطير العسكر هامات رجال ونساء
وأطفال، وسحقت جنازير الدبابات والمناشير أجسادا عربية، وأزهقت أرواح مئات الآلاف
ببراميل وصواريخ جيوش عربية وأخرى مستوردة لحماية طغاة منهمكين ليل نهار في تقديم
الولاء لترامب ونتنياهو وبوتين وعلي خامنئي، ولتأكيد نباهة الحاكم العربي في
تفنيده زيف الحرية والديمقراطية.. لكنها لم تستطع إيقاظ نباهة عربية مشابهة لرفض
القتل وحق الإنسان في كرامته.
في اللحظة التي كان فيها الشرطي الأمريكي
ديريك شاوفين يُطبق على رقبة فلويد، كانت رقاب معتقلين في زنازين عربية ما زالت
تترنح تحت التعذيب، لم تلق اهتماما منذ سنوات من نباهة المستيقظ على عنف السلطات
الأمريكية، نباهة تنفض عنها آثار الغفو والنعاس، وتلفظ عباراتها مع تثاؤب: ألم نقل
لكم إن أمريكا "رأس الأفعى"؟ وكأن الشارع العربي غير مدرك لتحالف سياسة
أمريكية مع سياسة عربية وصهيونية.. وكأن غضبة العربي من حاكمه الطاغية والمستبد لا
تستهدف بالأساس ارتهان قبضته الأمنية والقمعية لهذا التحالف.
هكذا بدت صحوة بعض أبواق أجهزة النظام العربي،
وكأنها فاصل زمني بين سباتين، أو أنها خطوات نائم ضل الطريق وخرج ولم يعد.
الحرية تلفظ أنفاسها كل لحظة في زنازين عربية،
وملايين البشر لا يستطيعون التنفس من بساطير قتلة ومجرمين. لا يختلف عن ديريك
شاوفين زملاؤه في دمشق والرياض والقاهرة وبنغازي واليمن وبغداد.. حرقوا وقطعوا
الجثث.. استخدموا المناشير لفرم الجثث، والتنكيل بالمعتقلين ومن ثم حرقهم.. الأسد
أقام له الروس فرنا لحرق الجثث، وباتت المعتقلات العربية مسالخ بشرية.
"شرطتنا العربية" ليست أقل من
نظيرتها الأمريكية أو الإسرائيلية، وسلاحها أمضى من رشاشات "العنصري"
الأمريكي وأقسى من ركبة ديريك شاوفين وأكثر تطورا، فهي ليست بحاجة لمن يطلق
رصاصاته أو براميله وصواريخه.. يكفي أن تحاط بمنطق من لا يرى في الشوارع العربية
إلا قطيعا يقاد، حيث تريد السلطة الحاكمة تطويعه وقمعه وكسر إرادته وتفتيت قدرته
على التعبير عن نفسه، والدفاع عن كرامته الشخصية والوطنية. وهي تعابير إنسانية لم
تكن حكرا أو مصطلحا أمريكيا أو ترامبيا، بقدر ما كان القمع والوحشية والشعبوية
والعنصرية قاسما مشتركا يجمع بين الطغاة والمستبدين مع المحتل الإسرائيلي والحليف
الأمريكي والروسي والإيراني والكوري الشمالي.
أخيرا، اقتباس وسائل إعلام نظام الأسد وعلي
خامنئي، من وسائل الإعلام الأمريكية لوصف خبث ترامب ونرجسيته، وتهكم أبواق السيسي
على ما يحدث، تذكرنا بمن صدحت حناجره عن الحرية والكرامة، أو من خط شعارات في درعا
أو القاهرة وبغداد واليمن، فاقتبس جيش بلاده وشرطته من إجرام المحتلين وأضاف مسحته
عليها باقتلاع الحناجر والأظافر، لكن دون نباهة توقظ ضمير نخب الطاغية عن زيف مسمى
الزعيم أو الوطن وقائمة التزوير الطويلة.
شبح الحرب التجارية يعود من جديد
فساد القضاء مؤذن بنهاية الدول!