قضايا وآراء

مخلوق اسمه الشر

1300x600
إذا كان جوهر "الشر" الإنساني هو تحول وجه ابن آدم عن السلوك إلى الله، والإخلاد إلى ثِقَل الطين، بل ومحاولة فرض هذا الهوى المتعدي للحدود الإلهيَّة على الوجود البرَّاني المخلوق، كما أسلفنا في مقال سابق؛ فكيف يَتسِقُ هذا الفسق الإنساني، "المتحرِّر" من الحد الشرعي؛ مع تمام هيمنة الحاكميَّة الإلهيَّة على الكون؟

تكشِف الأدلة، النصيَّة ثم العقليَّة؛ أن وحدانيَّة الله تعالى تقتضي كمال هيمنته على كونه، ومن ثم استحالة أن يُشاركه شيء هذه الهيمنة، ولو كان "قُطبا" شركيّا موهوم المناوءة للتوحيد. إذ يُدرك المؤمن صحيح الإيمان أن إبليس (رمز الشر الأزلي) ليس نِدّا لله تعالى، ولا شريكا يُنازِعه مُلكه؛ وإنما مخلوق ضعيف وعبد حقير لا يقوم بذاته، بل أُمهِلَ ومُدَّ له لحكمة أرادها خالقه: أن يكون فتنة يُبتلى بها المكلَّفون من خلقه.

ومن ثم، فإن هذا المخلوق الآبِق المُمْهَل، الذي لا يُمكنه الاستقلال عن إرادة الخالِق القاهِر؛ ليس عدوّا للمولى سبحانه بالمعنى الحرفي الساذِج (النافي للحاكمية الإلهيَّة)، الذي قد يُفضي إلى حرب "متكافئة" الأطراف؛ يُحتمل أن ينهزِم فيها طرف الحق، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وإنما هو عدو "مجازي" لله، بمعنى مروقه واستكباره بغير الحق، مع شدَّة عجزه؛ أما عداؤه الحقيقي الحرفي فهو عداؤه لبني آدم، فهؤلاء بوسعه هزيمتهم؛ وحتى هزيمته لبعضهم لا تكون في مواجهة مباشرة أبدا، وإنما عن طريق استغلال ضعفهم البشري، وابتعادهم عن ربهم الحق؛ والإيعاز لهم بالاستمرار في ذلك الغي. فهؤلاء أيضا لا يسعه هزيمتهم بنفسه ولا بقوَّة ذاتية أودِعَت فيه، وإنما يهزمهم بضعفهم ووَهَن اعتصامهم بالله؛ فهو ضعيف حتى أمام عدوه البشري المباشِر، متى اعتصم الأخير بربه. بل إن شياطين الإنس وجحافِل الشرك لا تهزِم المسلم، على المستوى العسكري البراني؛ بأي شيء من العدد والعُدَّة، مهما تفوَّقت؛ وإنما تهزمه بذنوبه وفساد خلقه. والأمثلة التاريخيَّة متواترة.

ومما سبق يتجلى لنا أن الشر ليس مددا مباشرا من الشيطان، وإن كان يوسوس به ويحض عليه؛ وإنما مصدره طين النفس البشريَّة واختيار المكلَّف (أو عدم اختياره في بعض الأحيان!)، الذي أطاع الوسواس الخناس. إذ تتلاعب الوساوس الإبليسية والبشريَّة بإرادة البشري الضعيف، وتجعله يُحجِمُ عن الخير؛ لينفسِح بذلك المجال للشر، في نفسه ثم في الوجود. إذ يُهزَم البشري، برانيّا وجوانيّا؛ بإرادته... تارة بإرادة الفساد واختياره نبذ الخير، وتارة بفساد الإرادة وعجزه عن أخذ الخير بقوَّة.

وهذا يعني أن البشري لا يكون أداة لشرور نفسه، وألعوبة لشرور غيره؛ إذ يختار هذه الشرور ويُغذيها بجموحه فحسب، وإنما يصير وقودا لهذا الشر حين يُحجِمُ عن إتيان الخير ابتداء، ولو لم يكن قد أقدَم على الشر بعد. وأصل ذلك أن التوحيد بذاته ليس في حرب برَّانيَّة مع الشرك، فالأخير مجرَّد نتيجة ثانوية عارِضة لانسحاب التوحيد من النفس ثم من المجتمع، وهي نتيجة لا وجود لها بذاتها، وليس لها أقنوم موضوعي برَّاني تلوذ به ويُمسكها وتتراكم فيه. إذ مثلها مثل ظُلمة الليل، التي ليست سوى غياب للشمس؛ فإن أشرقت الشمس تبدَّدت الظُلمة بنورها. ومن ثم، كان الصراع الدنيوي الحقيقي، وموضوع دراما التكليف؛ صراعا بين المؤمن والشرك الجواني (الهوى)، ثم بين المؤمن والشرك البراني (المشركين وأنظمتهم المتجسِّدة نتيجة أفعالهم الصادرة عن شركهم الجواني الذي لم يكبحوه).

وإذا كان الشر لا يصدُر عن الشيطان، كما أن هذا الملعون لا يقوم بذاته، بل بحبل من الله وحبل من الناس؛ فإن الشر نفسه لا وجود له إلا في ثنايا منحة/ محنة التكليف المقدور، فهو أحد نتائجها وتبعاتها المحتملة. إذ الشر ليس مُجرَّد انسحاب للخير من الوجود كما أسلفنا، بل هو انسحابٌ رأسه وأصله وجوهره اختيار البشري نبذ الخير والانسياق وراء الهوى الذي زيَّنه الشيطان. وبعبارةٍ أوجَز؛ فإن الشر مصدره حُريَّة الإنسان في الاختيار، أي أن هذه الحريَّة كما حملت المقدرة على اختيار الحق والخير المفطور؛ فقد كمُن فيها شر يتمثَّل في إمكان عدم اختيارها للحق والخير اتباعا للهوى المجبول. لهذا، فإن القعود عن نُصرة الحق ليس حيادا في دار الابتلاء، فلا يوجد حياد في هذه الدار؛ بل هو نُصرة غير مباشرة للباطل وإفساح له كما بيَّنا. لذلك قيل إن الساكت عن الحق شيطان أخرس! إذ أن خُذلان الحق ونُصرة الباطل وجهان لذات العملة، ولو لم يَقصِد من خذل الحق نُصرة الباطل صراحة. بل ولو كان كارها لهذا الباطل مُحاربا له بالأماني؛ إلا أنه قد نصره بقلبه ثم بفساد إرادته وضعفها. أي أن سوء الإرادة يُفضي قطعا لعين المآل الذي تؤدي إليه إرادة السوء.

ولأن الشر مصدره الحقيقي هو الحريَّة الإنسانيَّة، التي كفلها بارئها جل في علاه وجعلها أداة القيام بالتكليف؛ فإن كل أوهام الفردوس الأرضي والطوباويات المتنوعة، التي تبشر بها أيديولوجيات الشرق والغرب؛ إنما تصب كافَّة جهودها في بناء عالم آلي مُتناهي التنظيم و"الرُشد"، عالم لا مكان فيه للشر البراني، أي لا وجود فيه للحريَّة الإنسانيَّة؛ على المستوى النظري فحسب.

لكنَّ هذا التقويض الشيطاني للحريَّة الإنسانيَّة لا يُمكن أن يخلق عالما خاليا من الشر لسببين؛ أولهما أن القدرة الإنسانية على الاختيار مفطورة ولا يُمكن اقتلاعها نهائيّا، ولو سُحِق الإنسان سحقا؛ فهي جزء من تكوينه المجبول لهذه الدار. أما السبب الثاني فهو الطبيعة المقدورة لهذه الدار نفسها، بوصفها دار ابتلاء. لهذا، كان الشر الأكبر في الوجود هو مساعي اعتساف فردوس أرضي، في محاولة للقضاء على الشر الإنساني؛ حتى يلي ذلك (إن أصاب شيئا من نجاح!) التأصيل العملي للكفر جهارا باليوم الآخر، بعد أن أمكن تحقيق الفردوس الأرضي وبناء عالم يدَّعي خلوه من الشر.

هذه المحاولة (التي اضطلعت بها الحضارة الجاهليَّة الحديثة) تتم بوعي كامل بمضامين الحياة والفطرة، لهذا؛ فإنها تبتدئ بنزع القداسة عن الإنسان والعالم، وتحويلهما إلى مادة استعماليَّة لا قداسة لها، مادة يسهُل على آلة الطوبيا المتوهَّمة ازدرادها بغير مقاومة، وتوظيفها والتلاعُب بها؛ وهو ما يجعل الشر يتفاقم ويبلُغ مُعدلات كارثيَّة تفوق بكثير حدود الشر البشري "الطبيعي" المحدود، الذي قد يأتيه الإنسان في لحظات ضعفه وارتكاسه. إذ يصير الشر الذي يُمارسه القائم بترشيد الواقع، في هذه المنظومة الشيطانيَّة؛ "أداة" للقضاء على كل الشرور "الأخرى"، أو بعبارة هوليوديَّة مشيحانيَّة: يصير حربا كاسحة يُراد لها أن تُنهي كل الحروب!

لهذا كلَّه، كان الحل الوحيد الذي افترضه الإسلام لمواجهة الشر الإنساني، وتقليصه؛ حلا جوانيّا فحسب: التقوى، أي تنمية الوازِع الذاتي. وهو الحل المركزي والتأسيسي، وليست الحدود الشرعيَّة البرانية إلا مكمل له، ومتمم لغرضه. إنه حل إنساني وتاريخي، لا يقضي على الشر قضاء مبرما، ولا يمحوه من النفس في دار الابتلاء، ولا يقضي على أثره في الوجود؛ وإنما يضعه في حجمه الحقيقي، بوصفه ارتكاسا للنفس وإخلادا إلى الأرض. ثم يكون التحكم في آثاره البرَّانية بالامتثال الكامل للحاكمية الإلهيَّة: إخضاع التاريخ للوحي بشقيه البراني والجواني (الشريعة والحقيقة).