قضايا وآراء

بدر الكبرى في رمضان.. ملحمة عسكرية ستظل في عقول العالم كله

1300x600

غزوة بدر الكبرى ملحمة عسكرية عظيمة ما بين شجاعة وذكاء القائد العسكري محمد صلى الله عليه وسلم، وبراعة وشجاعة كتائب المسلمين، والتي سطرت في كتب التاريخ بأحرف من ذهب وستظل في عقول العالم كله.

وشهر رمضان العظيم شهر الصبر والجهاد والنصر، فقد ارتبط منذ ظهور الدولة الفتية، دولة الإسلام في المشرق والمغرب، وغيرت العالم كله. وكانت غزوة بدر الحدث الأكبر في تاريخ الإسلام في 17 رمضان، السنة الثانية للهجرة. والنصر الحاسم على مشركي قريش كان الركيزة الأولى لتدعيم دولة الإسلام الفتية وإظهار القوة العسكرية أمام العالم كله، وليس أمام قريش وحدها.

والمتأمل في أحداث شهر رمضان والانتصارات العظيمة عبر التاريخ سيجد أن تلك الانتصارات لم تكن مصادفة، بل كل شيء كان بترتيب وتدبير من الله عز وجل. وسيجد أن المسلمين يتنقلون كثيرا من مرحلة إلى مرحلة أخرى في شهر رمضان، من ضعف إلى قوة، ومن ذلٍّ إلى عزَّة، لقوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" (آل عمران: 123)، وأن هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تحضُّ على الجهاد. يقول المولى عز وجل: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإنِ انْتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ" (البقرة: 190-193) آيات تحضُّ على الجهاد والقتال بشدَّة، والعلاقة واضحة بينها وبين آيات الصيام.

وتعد غزوة بدر الكبرى أول صدام مباشر وحقيقي بين المسلمين وبين مشركي قريش. وسطر جيش الإيمان النصر الحاسم بأحرف من ذهب في كتب التاريخ بقيادة أعظم قائد عسكر عرفته البشرية، النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. لم ينتصروا بأسلحة دمار شامل، أو صواريخ باليستية، أو الأسلحة الثقيلة أو طائرات الفانتوم أو الأقمار الصناعية، بل انتصروا بالمطر والنعاس، وبالرعب في قلوب مشركي قريش، وبالشورى فيما بينهم والتوفيق في الرأي، وبضعف الرأي عند الأعداء.. وانتصروا بالملائكة؛ الملائكة التي نزلت تحارب مع المؤمنين في بدر، أفضل الملائكة، وجبريل (عليه السلام) على رأس الملائكة "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" (الأنفال: 10)، "وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (الأنفال: 17).

 

غزوة بدر فيها زُرِعَ الأمل في نفوس المسلمين إلى يوم القيامة؛ ما دام الله معك فالنصر (لا شك) حليفك.. فبعد بدر أصبحت للمسلمين دولة لها شوكة قوية ومكانة ووضع مستقر؛ انتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة، والعالم كله سمع عن هذه الدولة.

تغير هائل بدأ يحدث في بدر.. ليست كأي غزوة، فهي غيَّرت مجرى التاريخ؛ لذلك سماها المولى عز وجل يوم الفرقان، وربطها بشهر رمضان من أجل أن نتفكر دائما في هذا الشهر، فمَنْ مِنَ المسلمين لا يعرف أنها كانت فيه؟! حُفِرَت في وجدان كل صغير وكبير، كل رجل وامرأة.

يجب أن نتذكر علاقتها برمضان دائم.. في غزوة بدر عرف المسلمون أن النصر من عند الله وليس بالعدد ولا العدة، فلا يصلح لأمة بعيدة عن ربها، وبعيدة عن دينها أن تنتصر. تعالوا نقرأ ونتأمل سورة الأنفال التي تتحدث عن غزوة بدر: "وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 10).

كيف يمكن لعدد مثل 313 أو 314 أن يغلبوا ألفا؟ هذا العدد القليل معه فَرَسان، والعدد الكبير معه مئة فرس.. العدد القليل خارج بسلاح المسافر، والعدد الكبير خارج بسلاح الجيوش.. كيف لهذا الجيش القليل أن يغلب هذا العدد الكبير؟ هذا ليس له إلا أمر واحد، ألا وهو أن الله عز وجل هو الذي نصر المؤمنين، نصر الضعفاء القلَّة الأذلة؛ كما عبَّر (سبحانه) في كتابه الكريم.. انتصروا بأسلحة غير تقليدية تماما.

الدروس المستفادة من غزوة بدر:

1- الابتكار في الخُطط العسكرية: لقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبا جديدا في منازلة الأعداء، يتمثل في نظام الصفوف الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفا كَأنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ" (الصف: 4). وقد كانت العرب تقاتل بأسلوب الكرّ والفرّ، وهو الأسلوب المعهود بينهم، فعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابتكار أسلوب الصفوف. ويعتبر الإبداع والابتكار ميزة رائدة تتميز بها العسكرية الإسلامية في المعارك.

2- الاستفادة من الظروف البيئية المحيطة أثناء قتال العدو: لم يغفل النبي صلى الله عليه وسلم الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو. فقد كان يستفيد من كل الظروف المحيطة في ميدان المعركة لخدمة صفّه. ومن أمثلة ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل بدء القتال يوم بدر. 

3- الحرص على رفع الروح المعنوية للجنود: كان صلى الله عليه وسلم يَحثُّ أصحابه على القتال ويحرضهم عليه امتثالا لقوله تعالى: "يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" (الأنفال: 65). ففي غَزَوة بدر الكبرى رفع صلى الله عليه وسلم الروح المعنوية لأصحابه قائلا: "قُومُوا إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ". وفي المجال العسكري تلعب الروح المعنوية دورا بارزا في صَقْل شخصية المُحارب؛ إذ إن الروح المعنوية المرتفعة تُمثّل مصدرا من مصادر التفوق العسكري.

4- الدعاء أحد الأسلحة الفتّاكة في مواجهة الأعداء: لما نظّم صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه، وأخذ بكل الأسباب المُتَاحة، رجع إلى عريشه الذي بُني له ومعه صاحبه أبو بكر، وسعد بن معاذ على باب العريش لحراسته وهو شاهر سيفه، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء قائلا: "اللهمَّ أنجِزْ لي ما وعدتني. اللهمَّ آتِ ما وعدتني، اللهمَّ إن تَهلِك هذه العصابةُ من أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرض". ونحن نعلم أن الدعاء مَطِيَّةُ مَظِنة الخطر، وحقيقته: إظهار الافتقَار إليه، والتبرُّؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذِّلةِ البشرية، وفيه معنى الثناء على الله تعالى، وإضافة الجود، والكرم إليه: ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة".

5- تواجد القائد مع جنوده في ساحة القتال: فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس؛ حيث كان مع قومه في قلب المعركة وفي ميدانها، بل كان يُسوِّي صفوفهم بيده الشريفة الكريمة صلى الله عليه وسلم. والقائد الناجح هو من يُشارك جنوده لَأواء المشاقّ وكَأداء الحروب، ويُكابد معهم الآكام والشِّعَاب. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: نحن نمشي عنك قال: "ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما".

6- النصر من عند الله: إنَّ حقيقة النصر في غزوة بدر كانت من الله تعالى، وقد حكم الهو تعالى بذلك في قوله: "وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (آل عمران: 126). وقد قيّد الله تعالى النصر بقوله: "وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَـئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55).

7- تأصيل مبدأ الشورى في الإسلام: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إلى بدر، فخرج الأنصار برغبتهم، وبشورى من رسول الله، وأعلن كلّ من عمر وأبي بكر، والكثير من المهاجرين، عن موافقتهم في الخروج، ثمّ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد، حتى قال سعد بن عبادة زعيم الخزرج: "إيَّانا تريدُ يا رسولَ الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحر لخضناها (أي الخيل)، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الْغِمَادِ لفعلنا"، ما دفع العديد من الأنصار للخروج، حيث بلغ عددهم 231، وهم 61 من الأوس، و170 من الخزرج، بينما كان عدد المهاجرين 83 رجلا فقط.

أيضا استشار النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة في موضوع الأسرى، فأشار أبو بكر بقبول الفداء، بينما أشار عمر إلى وجوب قتلهم؛ لأنهم من صناديد قريش، فنزلت آيات الله تعالى تعاتب المسلمين على قبول الفداء من الأسرى، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ".. لقد عُرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة.." (صحيح). قال تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍ أن يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُنْيَا وَاللَهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 67).

وقد تحدثت عن الدروس المستفادة لكي نتعلم منها، واعلموا أن الأمة لن تتقدم إلا بعد أن تعرف تاريخ الأمم السابقة وتتعلم منها حتى تنتصر.

قال تعالى: "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" (الأعراف: 176).