تتضح الصورة كل يوم..
تونس ضد
الفساد وتطلب المعركةُ رجالَها، فهل تجدهم في منعرج تاريخي هام يحدد مصير البلد ومصير تجربته السياسية التي يفتخر بأنها التجربة الوحيدة في المنطقة العربية؟
مؤشرات كثيرة على أن الفساد سينتصر في هذه المعركة أيضا، ولكن المعركة لن تنتهي بما يجعل معركة تونس المتجددة مع الفساد قبل
كورونا وبعدها معركة ضمن حرب مصيرية.. فإما البلد قائم يتقدم، أو الفساد يحكم ويخرب ويصنع نهاية بائسة لشعب لم يعزه الذكاء ولكن عازته الشجاعة في منعرجات التاريخ الحاسمة.
النقابة تعلن الحرب
لا يذهبن ذهن القارئ إلى أن النقابة تنحاز ضد الفساد وتقف مع الشعب الخاسر من الفساد، كما هي صورة
النقابات في الكتب النضالية، بل العكس هو ما يجري في تونس.. النقابات هي العصا التي يضرب بها الفاسدون الدولة ويخربون بها المؤسسات العمومية حيث يعششون منذ زمن طويل.
بدأ وزير النقل (وهو للصدفة من كوتا حزب
النهضة في الحكومة الحالية) تحقيقا أوليا في صفقات الفساد في شركات النقل، وخاصة منها الناقلة الوطنية (تونس الجوية)، فأطلقت النقابة النفير، وصدرت يوم الاثنين (4 أيار/ مايو) عشرة بيانات حربية من نقابات مختلفة في قطاع النقل تعلن في أركسترا موحدة؛ استعداد "أسود النقل" (هكذا) للحرب ضد وزير النقل الذي وصفه أمين عام النقابة بأنه بؤرة اضطراب، فالتقطت النقابات الإشارة وأعلنت تهديدات بكسر العظم، وهذه الجملة صارت جملة أثيرة على لسان أي نقابي يتكلم في الشأن العام.
قبل ذلك كان السيد عماد الدائمي، وهو رفيق الدكتور المنصف المرزوقي في مسيرته النضالية، قد أثار قضايا فساد في قطاع النقل بالتحديد، ونجح في سجن بعض الفاسدين وتغريمهم قضائيا، ولا يزال يطارد الفساد، فتظهر له النقابات في الطريق وتطارده وتطلق التهديدات بتصفيته، واصفة إياه بكل نعوت الخيانة وبث الفتن.
كل حركة من هذه الحركات تكشف أن هناك تحالفا حقيقيا ومتينا بين شبكات الفساد وبين النقابات، بل إن النقابات تنسج في مواقع كثيرة شبكاتها الخاصة وتغنم من تخريب المؤسسات وتبني منظومة مصالحها. والمثال الأكثر دلالة على ذلك هي الموانئ والمطارات، حيث تحمي النقابات شبكات التهريب.
منظومة المصالح الفاسدة هذه
هددت الثورة وأفرغتها من مضامين كثيرة، وحاربت حكومات سابقة، وهي الآن في مواجهة حكومة إلياس الفخفاخ. فهل ستصمد الحكومة وتفتح الحرب الحقيقة وتربح المعارك واحدة بعد أخرى حتى يؤوب الفساد إلى القانون ويستقيم حال الدولة؟
الحكومة مخترقة
ليس لنا إلا ربط الأمل بشجاعة الحكومة في هذه المعركة، لكن الأمل الكبير لا يفقدنا الحدس الواقعي. إننا نرى حكومتنا مخترقة بأنصار النقابة المستعدين لدفع الماء عكس قانون الجاذبية. حزبان على الأقل اعتمدا على النقابة لدخول البرلمان أولا ثم للمشاركة في الحكومة لاحقا، هما حزب التيار وحركة الشعب، وهما من عطل حكومة الحبيب الجملي ثم رضخا لحكومة الفخفاخ عندما أوشكت أن تعتمد على حزب قلب تونس في تشكيلها، فرضخا وتخليا عن شروطهما على حزب النهضة (الحزب المخول دستوريا بتأليف الحكومة)، لكنهما يظهران الآن في وضع من أجّل مطالبه ليواصل خطته الأولى معتمدا على قوة النقابة، لذلك نلاحظ في هذه المرحلة سكوتهما عن التهديدات التي تطلقها النقابة ضد الحكومة.
هذان الحزبان، في ما نرى حتى الآن، واقفان في موقع غير مريح للدفاع عن حكومة هما جزء منها في معركتها ضد الفساد، أو الدفاع عن النقابة حامية الفساد في كل موقع.
إنها فرصة فرز لمن يطيل التأمل وتسجيل المواقف وكتابة التحليلات المطولة كسلوى أكاديمية، ولكنها خيانة موصوفة لمن بدأ المعركة ولم يجد نصيرا. فعندما تصدر بيانات نقابية بأن وزير النقل سيحارب وحده، فهذا يعني أن النقابي الذي يطلق التهديدات يملك حلفاء لفساده داخل الحكومة نفسها. وهو يعوّل على خلافات سياسية داخل الحكومة ويعمّقها
ليُفشل كل المسار وينقذ فساده من كل محاسبة.
الرئيس حاضر بالغياب
التهديدات التي أطلقها نقابيون ومنهم الأمين العام للمنظمة؛ لم تثر غيرة الرئيس على صلاحيته باعتباره حامي الأمن القومي للبلد، ومحرك الجيش وقوة الردع الأساسية لحماية الدولة والمؤسسات. إنه يستقبل بشكل مكثف النقابي الأول فيخرج من عنده ويطلق الوعيد والتهديد، ولا نسمع من الرئيس نأمة واحدة تفيد استنكاره لذلك.
عرفنا بشكل متأخر أن الرئيس قريب جدا من تيارات سياسية بعينها، في مقدمتها حركة الشعب، وهي تدافع عنه بشراسة وخاصة بعد موقفه القريب من حلف القاهرة- دمشق- الإمارات- إيران- حفتر، أو على الأقل غموض موقفه من محور الربيع العربي، وكأنه ينسى أن كل
الأحزاب التي تؤلف حكومة الفخفاخ قد صوتت له محتمية به من منافسه الذي ثبتت عليه تهم فساد. وهو الآن في موضع من فرز بين مسانديه، وقد أخذ بموقف البعض وتخلى عن البعض الآخر.
هذا الصمت عن تهديدات موجهة للأمن الداخلي خاصة بعد الوباء؛ تؤذن بأن المعركة مع الفساد لم تكن ولن تكون معركة مع أشخاص، بل مع "سيستم" كامل نستشعر أنه التف على الرئيس كما اخترق الحكومة، وأن أحزابا دخلت البرلمان بالانتخابات وبشعارات مقاومة الفساد قد غيّرت بندقيتها وتحارب محاربي الفساد لتكرس سلطة النقابة، أي في النهاية سلطة الفساد وعصاه النقابية الغليظة.
رغم ذلك..
فإن المعركة انطلقت في مواقع محددة وحددت من مع الفساد فعلا ومن ضده، وهي تواصل الفرز وتؤلف أنصارها. ورغم أنها معركة طويلة وستكسر فيها عظام كثيرة، ولكن الهدف صار واضحا.
تونس لن تتقدم بالفاسدين ولن يبقى فيها سياسي حيا ما لم يصدق في هذه الحرب. ستكون هناك انتخابات قادمة (2024 أو قبلها بكثير)، وسيكون الناخب على بيّنة من أمره في من رفع شعار مقاومة الفساد ومن خانه في أول المعركة، وبين من سيقاوم الفساد فعلا ويكسب سياسيا من ذلك.
لم تعد هناك معارك أخرى، فأم معارك التونسيين هي معركة الفساد منها تنطلق التنمية، ومنها ينطلق الإصلاح الإداري والسياسي، ومنها تفرز القوى الوطنية لقادم الأيام والسنوات. وهذه هي النقطة الإيجابية الوحيدة في الفساد: أن مقاومته غربال سياسي للمستقبل.