فشل الكيان الموازي، التنظيم السري لجماعة غولن، في إسقاط الحكومة المنتخبة، على الرغم من محاولاته المختلفة بما فيها محاولة الانقلاب العسكري، ولكنه نجح في التغلغل في أحزاب المعارضة عموما، وحزب الشعب الجمهوري على وجه الخصوص، وأصبح قادرا على توجيه تلك الأحزاب والتأثير على سياساتها.
الكيان الموازي يتميز بمهارات عالية في التلون والتقمص واستخدام التقية والتغلغل في جميع الأوساط. ولذلك لم يجد رجاله صعوبة في التَّحوُّل إلى أتاتوركيين مؤيدين لحزب الشعب الجمهوري، وكأنهم من أنصاره منذ سنين، مع أنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالتدين ومعارضة هذا الحزب العلماني اليساري، وأن هذا الأخير هو أيضا كان من أشد المحذِّرين من أنشطة الجماعة وخلاياها في أجهزة الدولة.
المتابع لأدبيات حزب الشعب الجمهوري وأساليبه في معارضة الحكومة في الآونة الأخيرة، يرى فيها بصمات الكيان الموازي بوضوح، كما يلاحظ أن الكيان الموازي هو الذي يقوم بالتنسيق بين الأحزاب المحسوبة على تيارات سياسية مختلفة، وأدوارها في المعارضة، وكأنه قائد الأوركسترا.
جائحة فيروس كورونا أحيت آمال الكيان الموازي، وجعلته يتمنى انتشار الفيروس على نطاق واسع في البلاد، لينهار النظام الصحي بسبب الأعداد الهائلة من المصابين به، وتمتلئ المستشفيات، وتقف الحكومة عاجزة أمام الكارثة. ولذلك، حرَّض المعارضة على التشكيك في الجهود المبذولة والتدابير المتخذة من أجل مكافحة الجائحة، بهدف إثارة الخوف والهلع في صفوف المواطنين. ولما فشلت خطته هذه، سرعان ما انتقل إلى أخرى، وهي لفت الانتباه بأي وسيلة كانت عن النجاح الذي حققته الحكومة في التعامل مع الأزمة، وبناء نظام صحي قوي.
هناك أمر آخر لا يخفى على متابع يستطيع أن يقرأ ما بين السطور والكلمات. وهو أن بعض رؤساء البلديات المنتمين إلى حزب الشعب الجمهوري يرفضون هذه الأيام أن يعملوا بالتنسيق مع سلطات البلاد، ويسعون إلى العمل بعيدا عن تعليماتها، رغم مخالفة ذلك للدستور والقوانين. ويأتي على رأس هؤلاء، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو.
إمام أوغلو أعلن قبل أيام أن البلدية ستطلق حملة لجمع التبرعات، على غرار ما أطلقها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، رغم أن القوانين لا تمنح البلديات هذه الصلاحية. كما حاول رؤساء بعض البلديات أن يوزِّعوا مساعدات في مناطقها دون التنسيق مع المحافظين الذين تشترط القوانين إذنهم في مثل هذه الأعمال للحيلولة دون حدوث الفوضى.
هؤلاء، من خلال محاولاتهم للعمل خارج القوانين، يهدفون إلى أمرين: الأول، أن يقولوا للرأي العام التركي إنهم يريدون العمل إلا أن الحكومة تمنعهم من ذلك، مع أنه كان بإمكانهم أن يوزِّعوا تلك المساعدات بكل سهولة من خلال التنسيق مع المحافظين، كما فعل رؤساء بلديات آخرون ينتمون إلى أحزاب مختلفة بما فيها حزب الشعب الجمهوري، ولكنهم تعمدوا الإلحاح على العمل بطريقة غير قانونية.
أما الهدف الثاني، والأخطر، فهو التمرد على الحكومة، ومحاولة تمهيد الطريق لإحداث سابقة، وفرض أمر واقع، يتحرك فيه رؤساء البلديات، وكأنهم رؤساء حكومات. كما أن بعض الإعلاميين في تقاريرهم أطلقوا على البلديات "الحكومات المحلية"، على الرغم من أن النظام في تركيا ليس فيدراليا، وأن البلدية تسمى "الإدارة المحلية"، لا "الحكومة المحلية".
نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، ماهر أونال، انتقد هذه المحاولات في تغريدات نشرها بحسابه في موقع تويتر، وتساءل: "لماذا يسعى حزب الشعب الجمهوري إلى تشكيل "دولة موازية" من خلال رفض المشاركة في الجهود التي يقودها المحافظون باسم الدولة؟"، كما انتقدها رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، واتهم حزب الشعب الجمهوري بأنه يسعى إلى عرقلة جهود مكافة الجائحة، مضيفا أن محاولات هذا الحزب لإحداث "كيانات موازية" من خلال البلديات ستبوء بالفشل.
حزب الشعب الجمهوري، تعرض لعملية غيرت الحزب إلى حد كبير، منذ استقالة رئيسه السابق، دنيز بايكال، بعد فضيحة أخلاقية يعتقد أن الكيان الموازي وراء تفجيرها. وقد تزامن مع تلك الفضيحة صعود نجم كمال كيليتشدار أوغلو بشكل مفاجئ، حتى يصل إلى كرسي رئاسة الحزب الذي أصبح الآن يتابع أساليب الكيان الموازي حذو القذة بالقذة، في ظل اعتقاد بدأ ينتشر، بأن الكيان الموازي يدفع حزب الشعب الجمهوري باتجاه التمرد على الدولة. كما أن هناك سؤالا يطرح نفسه، وهو: "هل يمكن أن يقوم حزب الشعب الجمهوري بعملية انتحارية، كما فعل الكيان الموازي ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة؟".