في عام 1651 نشر باحث محترم، اعترف بـ«أنه هو والخوف توأمان»، واحدا من أهم الكتب عن الحكومة. نجا توماس هوبز من الحرب الأهلية الإنجليزية الدامية بهربه إلى فرنسا، وكان همّه وشاغله الفلسفي الأكبر هو سلامته الشخصية، وقد ذكر أن الحياة في طبيعتها «انفرادية وفقيرة وبغيضة وبهيمية وقصيرة»؛ لأن الناس كانوا دائما ما يتقاتلون. لذا؛ رأى أن على المواطنين التخلي عن حرياتهم لحاكم يستطيع توفير الحماية لهم. واعتمدت شرعية الدولة على تحقيقها شروط ذلك العقد، والحفاظ على سلامة مواطنيها، وقد كانت تلك الفكرة ثورية في وقت كان ملوك مثل تشارلز الثاني يتولون السلطة على أساس الحق الإلهي المزعوم. بالنسبة إلى هوبز، يقوم عقدنا مع ذلك الـ«لفياثان» أو الـ«لوياثان»، ذلك الكائن البحري الأسطوري، كما أطلق على كتابه، على مدى قدرته على حمايتنا.
لو كان هوبز ما يزال حيّا بيننا اليوم، لكان قد شعر بأنه على صواب؛ فالخوف يخيّم على العالم أجمع، ومن أجل حماية أنفسنا من هذا الفيروس المريع، تنازلنا طواعية لهذا الكائن الأسطوري عن حقوقنا الأساسية، بما فيها حرية مغادرة المنزل. لقد منح وباء «كوفيد - 19» للحكومة الأهمية مرة أخرى، حيث باتت الرعاية الصحية الجيدة، والمسؤولون الأكْفاء، والأوضاع المالية السليمة مهمة، أي إن الحكومة الصالحة هي ما يفصل بين الحياة والموت الآن.
بات التميز الحكومي للغرب موضع شك الآن، فيكفي أن تسأل نفسك ما إذا كنت تشعر بالأمان حاليا في نيويورك ولندن، أم في سنغافورة وسيئول. إن آسيا تلحق بالغرب، بل وتفوقت عليه وتجاوزته في بعض البلاد الصغيرة، ومن أسباب ذلك تعامل آسيا، التي تقوم على مبادئ كونفوشيوس، بجدية مع الحكم خلال العقود القليلة الماضية، في وقت سمح الغرب فيه بتحول الحكم إلى تراب ورماد.
القطاع العام في الغرب متراجع بعقود عن القطاع الخاص فيما يتعلق بالكفاءة والقوى المحركة، وقد قال لينين: «تمر عقود لا يحدث فيها أي شيء، وتمر أسابيع تشهد أحداث عقود»؛ وتمثل أزمة فيروس «كورونا» حدثا محفزا للتاريخ. وإذا استجابت الحكومات الغربية على نحو إبداعي، سوف يكون لديها فرصة تدارك عقود من التراجع؛ أما إذا ارتعشت وترددت وتأخرت في وقت تواصل فيه آسيا تقدمها وتطورها، سوف تزداد احتمالات ظهور نظام عالمي جديد بقيادة الشرق.
لقد اتجه الغرب إلى ما يمكن وصفه بقومية الحكومات الكبيرة، التي يمثلها بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، ودونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، في حين يتراجع الإصلاح. كذلك لم تشهد أوروبا أي تغيير، فقد مر الاتحاد الأوروبي بأزمة اليورو، ثم «بريكست» من دون أي محاولة جادة لإصلاح الذات.
هل ستكون أزمة «كوفيد - 19» الدافع لذلك؟ قد تبدو المؤشرات للوهلة الأولى غير مبشرة، فأينما وليت وجهك سترى حكوماتنا في حالة يُرثى لها، ومرهقة، وتفتقر إلى الكفاءة، ويسيطر عليها الذعر لا التخطيط الحذر. كذلك امتلأت المستشفيات عن آخرها بسرعة مرعبة، ويرتدي الأطباء في مدينة نيويورك، التي تمثل مركز الرأسمالية العالمية، نظارات غوص بدلا من الأقنعة الطبية، وتستخدم الممرضات أكياس القمامة بدلا من البزات الواقية. تم تعويض الأيام التي أهدرها الاتحاد الأوروبي في التنازع حول ما ينبغي فعله، كما هو معتاد، بطباعة المصرف المركزي الأوروبي أوراقا نقدية. وفي جميع أنحاء الدول الغربية لا تتوافر الفحوص، التي تتيح اكتشاف المصابين بالفيروس، بالقدر الكافي.
مع ذلك، إذا نظرنا عن كثب سنرى مؤشرات إيجابية؛ فدول لديها حكومات مرت بتغيير، مثل الدنمارك، أو التي تتبع وسائل تقليدية جيدة للتحكم في الوضع، مثل ألمانيا، تتعامل مع الفيروس بشكل أفضل من الدول الغربية الأخرى مثل الولايات المتحدة، وإيطاليا، وهي أيضا أفضل من الصين ذات النظام الاستبدادي المتكتم.
في نهاية الستينيات، كان الكثيرون في الغرب يعتقدون في قدرة الحكومة على توفير المزيد من المزايا، وكانت أمريكا تستهدف القمر ووصلت إليه بالفعل، في حين كان يتم إعادة بناء الدول الأوروبية. لقد وثق الناس بقدرة الخبراء على إصلاح الأمور، لكن بعد هزيمة فيتنام، وكارثة أزمة الطاقة، بدأت الثقة في الحكومة تتراجع؛ وبدأ واضعو السياسات في اللجوء إلى المفكرين الليبراليين مثل فريدريك هايك، وميلتون فريدمان، الذين وثقوا بقدرة السوق على إصلاح الأمور أكثر مما وثقوا بقدرة المسؤولين المتنورين على فعل ذلك، ولطالما رأوا أن الناس كانوا يتنازلون عن الكثير من الحريات مقابل مكاسب هامشية ضئيلة تتعلق بهناء العيش.
وقد أثارت تلك الأفكار خلال حقبة الثمانينيات نصف ثورة، عندما تحدت مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة، دولة الرفاهة؛ وتمت خصخصة أجزاء من الجهاز الحكومي، وخفض الضرائب، لكن توضح الأرقام أن الحكومة كانت تتأهب للالتهام أكثر مما كانت تستعد لاتباع نظام متوازن، حيث تستهلك الدولة حاليا نحو 40 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في الغرب، مقارنة بـ10 في المائة في بداية القرن العشرين. وانفجرت الدولة المتبعة للوائح التنظيمية على جانبي المحيط الأطلسي، حيث بات المرء يحتاج إلى رخصة كي يصبح مصفف شعر في فلوريدا، وتقف بروكسل مثل عنكبوت على شبكة الروتين. عندما تنظم الدولة كل شيء نشكو، وعندما تتمسك برأيها وتسمح بحدوث أمر ما خاطئ، تتعالى الأصوات الشاكية أكثر فأكثر، ويزداد اتساع الهوة بينها وبين القطاع الخاص الذي يتسم بقدر أكبر من الدينامية، فعلى سبيل المثال انخفضت إنتاجية القطاع العام في بريطانيا بنسبة 11 في المائة خلال الفترة بين 1999 و2010، في حين ازدادت إنتاجية القطاع الخاص بنسبة 14 في المائة.
ينبغي أن يكون الأداء النسبي لكل من آسيا والغرب في التعامل والتكيف مع فيروس «كورونا» بمنزلة رسالة تحذيرية للغرب، حيث جاءت أكثر الاستجابات الحكومية المثيرة للإعجاب من الشرق وجنوب شرقي آسيا. في الوقت الذي كان يهدر فيه الغرب الوقت ويتباطأ، كانت كل من اليابان، وهونغ كونغ، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، تطور فحوصها الخاصة بـ«كوفيد - 19»، وتسّرع وتيرة إنتاج المواد اللازمة لإجراء الفحوص، وتتيح المال بحيث يتمكن الناس من دفع ثمن الفحص والعلاج. ويثبت اضطرار سنغافورة، رغم قيامها بكل ما هو صائب، إلى فرض حظر كامل، في السابع من أبريل (نيسان)، مدى خطورة الفيروس، مع العلم بأن حالات الوفاة في البلاد بلغت ثماني حالات فقط.
تتعلق الدروس الأهم المستفادة من هذه الأزمة بأمرين نادرا ما تتم مناقشتهما معا. الأمر الأول هو كفاءة الجهاز الحكومي، والآخر هو الغرض من وجود الحكومة بوجه عام. يحتاج الغرب إلى برنامج تحديث شامل للحكومة، إلى جانب نظرية جديدة للحكم. حتى إذا لم يظهر في الغرب مفكرون في مكانة هوبز أو ميل، يمكن للغرب القيام بالكثير من أجل إعادة بناء وهيكلة عمل الحكومة، فقط من خلال تطويره ليتجاوز الحقبة الزراعية، مع استغلال التكنولوجيا بشكل أفضل والتعلم من أفضل ممارسات في القطاعين العام والخاص حول العالم، وأخيرا من خلال التخلص من المزايا والامتيازات البالية التي تجاوزها العصر.
مما لا شك فيه، أن الغرب يواجه أزمة كبرى لا تقل عن الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بسبب الخسائر، التي أحدثها فيروس «كوفيد - 19»، لكن أيضا لتزامن الأزمة مع تراجع القوة الأمريكية وتزايد قوة الصين. السؤال الجيوسياسي المهم الذي يواجهه العالم حاليا هو: هل يستطيع الغرب تجاوز هذا التحدي كما فعل في تحديات سابقة، وإعادة التفكير في النظرية التي تقوم عليها الحكومة، إلى جانب ممارساتها، أم إنه سيخفق ويترك للصين فرصة استعادة قيادة العالم، كما كانت لها حين جلس ذلك المعلم القديم الخائف ليؤلف كتابه الـ«لفياثان»؟
(الشرق الأوسط اللندنية)