يواجه
الفلسطينيون في الضفّة الغربيّة، تحدّيا مضاعفا إزاء
جائحة كورونا؛ عمّا هو عليه
الحال في بقية بلدان العالم، بما في ذلك مجالهم العربي. صحيحٌ أنّهم خاضوا النقاشات
ذاتها، التي يخوضها العالم، ابتداء من جدل إغلاق المساجد وليس انتهاء بعدّ ضحايا
الفيروس والمتغلبين عليه، مرورا بالتساؤل المزمن، المنبثق عن سوء ظنّ بالعالم، عن
حقيقة الفيروس نشأة
وانتشارا، ذهابا إلى ما بعد الطبيعة، عن التدخل الإلهي، ومسارات الفيروس الخاضعة
له عقوبة أو محنة وابتلاء، وما سوى ذلك، لكن يبقى للفلسطينيين أسئلتهم الخاصّة
جدّا، والتي لا يشاركهم فيها أحد في هذا العالم.
من نافلة القول
المملّ بالنسبة للفلسطيني، الإشارة إلى تعدّد مجالات حضوره الجغرافي المنعزلة عن
بعضها، والمتباينة في ظروفها، فبعض من همومه في الضفّة الغربيّة مثلا، وأسئلته
فيها، قد لا يشاركه مثلها أخوه داخل حدود فلسطين الانتدابية، ولكنّه في القدس أو
في فلسطين المحتلة عام 48 أو في
قطاع غزّة. كلّها فلسطين، ولكنّها صارت جغرافيّات
محكومة بالهندسة الاستعمارية، التي تعيد هندسة الوجود الفلسطيني في شظايا وجود
متناثرة بظروف مختلفة. وهذا المُدْرَك بداهة للفلسطيني، كثيرا ما نكتشف الجهل
المطبق به من أخيه العربي، فلزم التوضيح ما دام قراؤنا من العرب كلّهم.
بعد أنْ فرغ
الفلسطينيون في الضفّة الغربيّة من جدل إغلاق المساجد الذي لم يطل (أي الجدل)
كثيرا بينهم، التفتوا لمنفَذَيْن لا سيطرة حقيقيّة لهم عليهما، من شأنهما أن يفتحا
بابا واسعا للجائحة عليهم، وهما المعابر مع العالم الخارجي، والعمّال الفلسطينيون
من الضفّة الغربية الذين يعملون داخل كيان الاحتلال. فأمّا معابر الضفّة مع
العالم، والتي كانت سببا في ظهور الحالات الأولى، فلا سلطة لهم في الحقيقة عليها،
وإنّما هي سلطة الاحتلال الكاملة، وبما أنّ الاحتلال مدرك لتداخل الخطر بينه وبين
الفلسطينيين، فقد أغلق بدوره تلك المعابر، فظلّت إشكاليّة العمّال.
إشكاليّة العمّال
داخل فلسطين المحتلة عام 48، وفي المستوطنات على أراضي الضفّة الغربيّة، مركّبة،
وأقلّ وجوه التركيب فيها التباين الحاصل بين وقف حركة العمل داخل الضفّة بموجب
قرار حظر التجوّل، مع استمرار عشرات آلاف العمال من أهالي الضفّة في عملهم داخل
كيان الاحتلال أو في تلك المستوطنات. فالمسألة، وبالإضافة إلى المقارنة بين قطاعين
من العمّال تختلف أجورهم وظروف خضوعهم للسلطة الفلسطينية، ومن ثمّ انقطاع عمل
بعضهم في الأزمة واستمرار الآخرين، فإنّها بالضرورة تُحيل إلى قضايا اقتصادية
وسياسيّة وأخلاقية.
اقتصاديّا
ترتبط أقوات عشرات آلاف الأسر الفلسطينية في الضفّة الغربيّة؛ مباشرة بأبنائهم
الذين يعملون داخل كيان الاحتلال، هذا فضلا عن مساهمتهم الضخمة في حركة الاقتصاد
الفلسطيني في الضفّة عموما. وسياسيّا لم تُبلور الحركة الوطنيّة طوال تاريخها
موقفا حاسما من قضية العمل هذه، حتّى بات أمرا طبيعيّا، بل ومطلبا سياسيّا
واجتماعيّا، لضيق سوق العمل في أوساط الوجود الفلسطيني، وعجزه عن استيعاب آلاف
الشبّان، الأمر الذي يجعل العمل داخل كيان الاحتلال حلّا لهذه الإشكاليّة.
تُذكّر هذه
الأزمة، بهشاشة الوجود الفلسطيني السلطوي في ظلّ الاحتلال، لا اقتصاديّا فحسب كما
جرى بيانه، بل وأمنيّا أيضا، فتصاريح العمل بالضرورة يتحكم فيها الاحتلال وحده،
والمنافذ إلى داخل كيان الاحتلال من طرفيها تخضع لسيطرة الاحتلال وحده، ولا يمكن
للسلطة أن تمنع إجرائيّا أحدا من العمل داخل كيان الاحتلال من حيث الأصل، أمّا وفي
هذه الأزمة، فإنّ السيطرة على حركة العمال دخولا وخروجا، مستحيلة، لانحصار المجال
السلطوي الأمني داخل المناطق (أ)، وهي المناطق التي أنهى الاحتلال القدر الأكبر من
امتيازاتها بعد عملية السور الواقي عام 2002، ومن ثمّ فمراقبة حركة العمّال دخولا
إلى قراهم وأماكن سكنهم وخروجا منها إلى أماكن عملهم، وإخضاعهم للفحص والحجر، لا
يمكن أن تحيط بها السلطة، ممّا يتطلّب تدخّل
المجتمع الأهلي لحماية نفسه، ولأنّ
هذا المجتمع لا يمتلك السلطات الرسمية، فلا بدّ من تعاونه مع السلطة.
لجان الطوارئ
التي تشكلت من المجتمع الأهلي في القرى، والعديد من المخيمات وأحياء المدن، لم
تهدف فقط إلى الحدّ من المخاطر المحتملة على حركة العمّال؛ والتعاون مع الجهات
السلطوية المختصّة؛ بالمعلومات اللازمة حول ترك الحركة، وإنّما أقامت، بالإضافة
إلى ذلك، الحواجز على مداخل القرى، ونظّمت حركة الدخول إليها والخروج منها، وإنفاذ
الحجر العام في القرى الموبوءة، ولا سيما مع عدم قدرة السلطة على الدخول الحرّ
بقواتها إلى تلك المناطق الخاضعة أمنيّا للاحتلال، وسعت (أي لجان الطوارئ) إلى جمع
التبرعات وتوزيع المعونات على السكّان.
بدأت مبادرات
تشكيل لجان الطوارئ بمبادرات محلّيّة موضعيّة في كلّ موقع، بالتعاون بين مؤسسات
المواقع، وباشتراك الجميع، من الفصائل الفلسطينية وجهات العمل التطوعي وأبناء كلّ
موقع، إلا أنّ العديد من هذه اللجان عانت من تدخّل مباشر من الجهات الرسميّة
لإقصاء جهات سياسية بعينها، ولا سيما عناصر حركة حماس، أو الحدّ من حضورهم في
اللجان. واختلفت نتائج هذا التدخل من موقع إلى آخر، بحسب استجابة حركة فتح في
الموقع، واستجابة المؤسسات الرسميّة في الموقع. وبالإضافة إلى ذلك، لم تَخْفَ
مظاهرُ تسييس لجان الطوارئ لتحقيق مكاسب دعائيّة وسياسيّة لصالح حركة فتح.
هذا السلوك،
يعيد التأكيد على الطبيعة الاستئثاريّة لحركة فتح، والتي ترفض الشراكة والتعاون
حتّى في حدود كهذه، وفي ظرف بالغ الحرج من هذا النوع، الأمر الذي يتجلّى مفتاحا
لفهم الكثير من الاستعصاءات الفلسطينية الداخلية، كما هو الحال في مشكلة الانقسام
واستعصاء المصالحة والعلاقة المتطرّفة في خصومتها وتنافسيّتها بين حركتي حماس وفتح.
وبالإضافة إلى هذا الاستعصاء في التصوّر الفتحاوي لوجود حركة منافسة كحماس، فإنّ
السلطة الفلسطينية ترى في أزمة
كورونا حدثا عابرا، لا ينبغي السماح بتحوّله غطاء
لأيّ نشاط لعناصر حماس حتى لو استظلّ بلجان الطوارئ التي تهيمن عليها حركة فتح
بالدرجة الأولى وبالتنسيق مع السلطة.
ما سبق وصفه من
طبيعة استئثاريّة وقراءة أمنيّة للنشاط المجتمعي في ظلّ الأزمة، متوقَّع بالنظر
إلى الخبرة الفلسطينية الطويلة في علاقاتنا الوطنيّة، ويؤشّر إلى صعوبة استفادتنا
من التطوّرات التي تؤكّد أهميّة المجتمع بشرائحه وأطيافه المتنوعة في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تهدّد وجودنا برمّته، ولن نعود لاستحضار
الإعلان القريب عن
صفقة القرن، بل يكفي أن نذكّر بصبر المجتمع على الأزمة
الاقتصادية التي نجمت عن اقتطاع الاحتلال قيمة مخصّصات الأسرى والشهداء من أموال
السلطة، وكيف أن المجتمع الآن، المجتمع الأهلي المحلي البسيط، لا الرأسمالية
الكومبرادورية، يعصر نفسه للحدّ من الآثار الاقتصادية الطاحنة الناجمة عن الحجر
العام ووقف الحركة الاقتصاديّة وتعطّل آلاف العمال من عمال المياومة وتراجع مداخيل
السلطة الضريبية، ومن ثمّ احتمالية دفع الرواتب منقوصة خلال الفترة القادمة.
هذا المجتمع
المتعاون، لحماية نفسه، لا يسعى لمعالجة التداعيات الاقتصادية للأزمة فحسب، بل
يعوّض عن وجود السلطة في الأماكن التي لا يمكنها أن تحضر فيها أمنيّا باستمرار،
بسبب اتفاقيات أوسلو التي تحصر حضورها الأمني في مناطق (أ)، إلا بترتيبات آنيّة خاصّة.
وذلك كلّه يعيد المجتمع إلى موقعه الطبيعي، والطليعي، في ظلّ الاحتلال، ويذكّره
بخبرته العظيمة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى قبل تأسيس السلطة الفلسطينية.
حينما يكون
الحضور السلطوي الفلسطيني بهذا القدر من الانحصار، ما دمنا نعاني الاحتلال، ولا
نجد مناصا من الاستناد إلى مجتمع متعاون كمجتمعنا الفلسطيني، فهذا يعني أن مواجهة
التحدّيات الكبرى لا تكون إلا بإعادة الاعتبار لهذا المجتمع، بكلّ أطيافه وشرائحه،
وأن النفس الإقصائي والاستئثاري في ظرف كهذا، هو خطيئة مضاعفة.