حلّت الكورونا كضيف ثقيل على جميع البيوت في جميع البلدان، وارتبط حلولها بالقلق والخوف، مما أشعل الرغبة في معرفة خباياها وآلياتها، ثم طرق الوقاية منها، وشيئا فشيئا توارى المشككون في أمرها، وتبارى الجميع للحصول على أكبر قدر من المعلومات عنها، حتى صار لدينا اليوم نحو مليار خبير كوروناوي، وعشرات الوصفات للقضاء على الوباء، من بينها واحدة أعلن عنها طبيب عراقي وعد بتوزيعها تجاريا على بقية دول العالم بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي، ثم اختفى هو والوصفة من مسرح الأحداث، وأخرى وقائية تحدث عنها خبير مصري، تحمل اسم الشلولو، والتي قال إنها الملوخية المجففة وعليها ماء بارد وثوم كثير وعصير ليمون، وعلى ذمة وكالة واتساب للأنباء يمكن الحصول على الشلولو من أمازون، التي ومن باب الأمانة وحفظ الحقوق، تبيعه في عبوات صغيرة كتب عليها بالإنجليزية Shalowlow وعن اكتشاف الباحثين في جامعة عربية دواء ناجعا يقضي على المرض و... المريض في نفس الوقت.
يمارس بنو البشر التنكيت وصوغ الطرف في لحظات الخوف، كسلاح للتغلب والانتصار عليه، والدعابة وإن بدت هزلا وهذرا وعبثا، هي وسيلة الإنسان للهرب من المخاوف، والهرب هنا غير النكران والإنكار، وهو الخيار الأفضل مقابل الاستسلام للأفكار السوداء واليأس والقنوط، فالطرفة/ النكتة تساعد الإنسان على تخفيف وطأة الهم والقلق على الصدر والقلب.
في الأسابيع الستة الأولى من ذيوع أمر الكورونا، اقتصر الحديث عنها من جهة حول أعراضها وسبل الوقاية منها وإمكان علاجها، ومن جهة أخرى حول أن مجرد الحديث عنها والتهويل من أمرها خطة (مؤامرة) تهدف إلى أمر أو لآخر، ولكن ما إن اقتنعت غالبية البشرية بأن الكورونا صارت أمرا واقعا، ولم يعد أحد بحاجة إلى مختص ليحدثهم عن خطرها الساحق الماحق، حتى تفجرت قرائح المبدعين، فكان طوفان الرسومات والنكات والتي كان معظمها ليس عن الفيروس المسبب للعلة، بل عن العلة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
بعد أن صار الانحباس في البيت ضرورة صحية، ظهرت ملايين جمهوريات بيت ـ لندا المقسمة إلى ولايات: غرفتلندا وصالتلندا، وعواصمها مطبخلندا، ولكن الرجل روجوا بأن بيتلندا تخضع لنظام قمعي فاشستي، يتعرض فيه هو إلى شتى صنوف الإذلال؛
تفادي الإصابة بالكورونا استوجب وضع كل إنسان نفسه تحت الحجر الطوعي بتفادي الخروج من البيت، والحجر القسري بموجب أوامر حكومية تفرض عقوبات مغلظة على من يتجولون أو يتجمهرون في ساعات بعينها، فجادت القرائح بالأهوال التي يقاسيها الرجال المتزوجون، بعد أن قلبت الكورونا الموازين، وصار الرجل ملزما بالبقاء في بيت الطاعة، وشاعت مناشدات من الرجال إلى الزوجات بأن البقاء سويا في البيت فرصة للارتقاء بالتعايش السلمي بين الطرفين و"ليس تصفية الحسابات".
وبعد أن صار الانحباس في البيت ضرورة صحية، ظهرت ملايين جمهوريات بيت ـ لندا المقسمة إلى ولايات: غرفتلندا وصالتلندا، وعواصمها مطبخلندا، ولكن الرجل روجوا بأن بيتلندا تخضع لنظام قمعي فاشستي، يتعرض فيه هو إلى شتى صنوف الإذلال؛ والتباكي الرجالي في هذا الصدد يتعلق بمصادرة حق الخروج والسهر والسمر خارج البيت، وفي هذا اعتراف ضمني بأن الرجل يعشق ما نسميه بالعامية الصياعة والصرمحة، وبأنه يعتقد أن الزوجة وحدها ملزمة بلزوم البيت، وبأنها كائن لا يطاق وذات نزعات امبريالية قراقوشية، بدليل أن إحداهن اتصلت بالسلطات الصحية تطلب المشورة الطبية، وأبلغتها بأن زوجها عاد من جولة خارج البيت فأرغمته على الاستحمام بالديتول وغرغرة الفم بسائل تعقيم ورش كامل جسمه بالكولونيا، ثم تتساءل: أغليه أم أن هذا يكفي؟
وفي الثقافة الرجالية فإن أم الزوجة وليس أم الزوج هي أس الداء والبلاء، ونسمع تسجيلا صوتيا لرجل يتصل بسلطات الأمن شاكيا من أن حظر التجوال الذي تزعم سريانه لمنع انتشاء فيروس الكورونا كلام فارغ، "وإن لم يكن كذلك فكيف وصلت أم زوجتي إلى بيتي، مساء أمس لتتذرع بعضها بأنها لن تغادرنا امتثالا لقرار الحظر".
وهناك من مضى إلى أبعد من ذلك لإظهار أن الزوجات كائنات شرسات، وأنهن من يتضايق من الوجود الدائم للأزواج في البيت، بأن أورد حكاية الزوجة التي كلما مرت بزوجها المُكوَّم أمام التلفزيون لأيام متصلة تفاديا للكورونا همهت: اللهم ارفع عنا هذا البلاء، وزوجها يردد همسا بأنه لا يفهم ماذا تقصد بـ"البلاء": هو أم الكورونا؟ وآخر وجد نفسه في ظل النظام القمعي مجبرا على ممارسة الطبخ ويتصل بصديق متسائلا: في أي مرحلة عند طبخ الشعيرية أضيف الملح؟ فيرد عليه الصديق: يا مسكين بعدك في الشعيرية، ونحن وصلنا مرحلة المحشي؟
ويستمر القصف الرجالي على النساء، وكيف أن إغلاق محلات الكوافير كشفت أن جمالهن مفبرك، فتأتي حكاية من صادف شخصا في المصعد الكهربائي (الأسانسير) في العمارة السكنية وحياه: هلا يا جاري العزيز فيأتيه الرد: أنا جارتك فلانة إن شاللا (وهي ان شاء الله كما ننطقها) يجروك لجهنم من غير حساب.
وللتدليل على أن انحباس المرأة في البيت أمر طبيعي، وأن الاستثناء هو أن يبقى الرجل في البيت لا يبارحه جاءت نصيحة من الطب النفساني للرجل: لا تنزعج إذا وجدت نفسك تكلم النباتات والأواني وقطع الأثاث، ولكن إذا رَدَّت عليك واحدة منها عليك باللجوء إلينا فورا.
وما من شك في أن الرجال وفي جميع البلدان هم الأكثر تمتعا بحرية التجول خارج البيت، ولكن ها هي الكورونا تثبت أن الدنيا دوارة، بحيث صرنا رجالا ونساء رهن الحبس بينما معظم المخلوقات الأخرى تتجول في حرية، وإذا كانت الشياطين تخضع للحبس في رمضان فها هو ابن آدم يخضع للحبس في شعبان.
في 18 آذار (مارس) من عام 1871 تم الإعلان عن أول جمهورية اشتراكية تهتدي بالنظرية الماركسية في باريس (كوميونة باريس)، ولكنها انهارت بعد شهرين، ومن المؤكد أن جمهورية بيتلندا لديها قابلية الاستمرار طويلا، لأنها قامت على هَدْي نظرية التكاتف البشري من أجل بقاء الجنس البشري.
المبالغات المتعلقة بفيروس كوفيد-19
استراتيجية مناعة القطيع الكورونية
"كوفيد 19".. لماذا تنتشر نظريات المؤامرة؟