ابتزاز
هذا.. أقل ما يمكن أن توصف به السياسة
الإسرائيلية تجاه
غزة في زمن
كورونا، والتي
ربطت تقديم أي مساعدات إنسانية وصحية لمواجهة الوباء باستمرار سريان التهدئة
المجانية دون دفع ثمنها واستحقاقاتها المتفق عليها، والسعي لإطلاق الأسرى الإسرائيليين
لدى
حماس دون صفقة تبادل ودون إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، بل مقابل المساعدات
نفسها لتمكين غزة من مواجهة الوباء، علما أن هذه أصلاً مسؤولية إسرائيل كونها
القوة القائمة بالاحتلال حتى مع إعادة الانتشار بغزة نهاية العام 2004.
قبل
الاسترسال في شرح السياسة الإسرائيلية تجاه
غزة في زمن كورونا، لا بد من التذكير بالمقاربة الإسرائيلية تجاه غزة بشكل عام، والقائمة
على ثلاثة أسس رئيسة؛ هي إبقاء الحصار مع عدم غرق غزة وموتها، وفي نفس الوقت عدم تعافيها
أو عودتها للحياة الطبيعية بجوانبها ومناحيها المختلفة، وإبقاء الانقسام السياسي
والجغرافي بين الضفة وغزة، والاعتماد على الفلسطينيين أنفسهم في إدامة الانقسام،
مع التدخل عند الحاجة سياسياً واقتصادياً وأمنياً لإجهاض أي بوادر مصالحة حقيقية
بينهم.
أما الأساس الثالث وهو مرتبط بما سبق، فيتعلق بإبقاء
الواقع الراهن كما هو وعدم انهياره أو ذهابه نحو الصوملة أو الفوضى، بمعنى عدم فقدان
حركة حماس السيطرة على السلطة، وكما يقال في إسرائيل بعنصرية وغطرسة: إبقاء الحركة
قوية كي تحكم غزة وضعيفة كي لا تمثل تهديدا لإسرائيل أو تشكل خطرا جديا عليها، علماً
أنه في ترتيب الأخطار من الناحية الإسرائيلية تأتي غزة بمرتبة متأخرة حتى لو كانت أكثر
إلحاحاً في بعض الأحيان.
الأسس الثلاثة السابقة نجدها حاضرة في التعاطي الإسرائيلي
مع غزة في زمن كورونا، بمعنى عدم إنهاء الحصار بأي حال من الأحوال، والحفاظ على الانقسام
والاعتماد أكثر في ذلك للأسف على الفلسطينيين أنفسهم، وضمان ألا يؤدي الوباء إلى كسر
أو انفجار الواقع الراهن في غزة.
أما في ما يتعلق بالابتزاز، فقد
ربطت إسرائيل أو سعت جادة لربط تقديم المستلزمات الإنسانية والصحية الضرورية
لمساعدة غزة على مواجهة الوباء باستمرار التهدئة السارية الآن، والتهديد بوقفها (المساعدات)
في حال خرق التهدئة أو استئناف إطلاق الصواريخ، علماً أن التهدئة السارية الآن تم
التوصل إليها بوساطة عربية أممية من قبل مصر والأمم المتحدة، وعلى إسرائيل استحقاقات
لا بد من دفعها تتعلق بفتح المعابر وتسهيل حرية الحركة وللمواطنين والبضائع، وإدخال
كل ما تحتاجه غزة، تحديداً في الجانب الصحي والإنساني، إضافة طبعاً إلى توسيع مساحة
الصيد.. هذا في مرحلة أولى، علماً أن ثمة مرحلة ثانية تتعلق بإقامة مشاريع للبنى
التحتية بإشراف الأمم المتحدة لتحسين الحالة الاجتماعية وتخفيض نسبة الفقر والبطالة،
وإعادة العجلة الاقتصادية للدوران بشكل جدي، ومرحلة ثالثة وأخيرة تتعلق برفع نهائي
للحصار ونقاش وحسم قضايا المطار والميناء، بموازاة التوصل
إلى
صفقة لتبادل الأسرى بين حماس والاحتلال.
واضح أن إسرائيل تتذاكى وتتلاعب ولا تريد الالتزام باستحقاقات
التهدئة، وتسعى للحصول عليها مقابل تقديم مساعدات إنسانية لمواجهة الوباء، علماً أنها
ملزمة بذلك كونها القوة القائمة بالاحتلال التي تسيطر على حدود القطاع البرية
الجوية والبحرية، وثمة فتوى قانونية حديثة وقاطعة من الأمم المتحدة بهذا المعنى، وحتى
من وزارة الخارجية الإسرائيلية نفسها بعد إعادة الانتشار (2004). والتصريحات الساذجة
والسطحية التي تصدر في بعض الأحيان من غزة لا تنفي حقيقة أنها ما زالت تحت
الاحتلال، ما يعطي أهلها بالتأكيد حق المقاومة، لكن بحسابات لها علاقة بالربح والخسارة
والدعم الإقليمي والدولي رسمياً وشعباً، وطبعاً دون التفريط أبداً بهذا الحق
(المقاومة) الأصيل المكفول شرعياً وقانونياً.
إضافة إلى التهدئة سعت إسرائيل لإطلاق سراح أسراها
لدى حماس دون دفع الثمن، بل بتقديم مساعدات إنسانية لمواجهة الوباء، أي أنها تستغل
تلك المساعدة للتهدئة المجانية والضغط لاستعادة أسراها دون دفع الثمن. وتصريح وزير
الحرب نفتالي بينيت بهذا الخصوص كان فظاً ومتغطرساً، وجاء ردّ قائد حماس يحيى السنوار
وعرضه تقديم تنازل رمزي وجزئي مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من المرضى والأطفال
والنساء وكبار السن، مع الانفتاح والتذكير بالصفقة الشاملة ومتطلباتها؛ ردّ الكرة إلى
الملعب الإسرائيلي، لذلك جاء موقف رئيس الوزراء الإسرائلي بنيامين نتنياهو الأخير
المتضمن إبداء الاستعداد لاستئناف المفاوضات عبر وسطاء من أجل استعادة أسراه حسب
تعبيره، علماً أنه لم يبد أي جدية لذلك طوال السنوات الست الماضية.
أعتقد أن دعوة نتنياهو مجرد مناورة موجهة للرأي الإسرائيلي
والأسرى، كما لتحقيق مكاسب داخلية في ذروة النقاش حول تشكيل الحكومة الجديدة
ومحاكمته بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، أيضا لإفراغ دعوة حماس من محتواها وأهميتها،
وإغراقها في التفاصيل والخطوات الإجرائية إلى حين انتهاء الوباء والأزمة السياسية
الداخلية؛ بتشكيل
حكومة طوارئ أو الذهاب إلى انتخابات رابعة.
في كل الأحوال، تجب مواجهة السياسة والمقاربة الإسرائيلية
تجاه غزة بشكل عام وفي زمن الوباء، تحديداً بموقف فلسطيني موحد واضح ومحدد، يركز على
حقيقة أن إسرائيل ملزمة بتقديم المساعدات لغزة بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، وهي
ملزمة بذلك أيضاً حسب تفاهمات التهدئة نصّاً وروحاً، والربط
المقبول والإنساني بين الوباء واستعادة الأسرى لا يجب أن يكون على حساب الجوهر،
بمعنى أن الوباء خلق أجواء مؤاتية، وفتح نافذة أمام التوصل إلى صفقة تبادل شاملة،
ولكن دون تذاكٍ وبالشروط نفسها التي اتبعت في صفقات التبادل السابقة.