أخبار ثقافية

"أسمر يا حبيبي".. من التاريخ الشعبي للحمار

في التراث الأردني تسبب الحمار والنزاع على ملكيته بالعديد من الحروب العشائرية التي خلفت قتلى- الأناضول

رغم أنّ الحمارَ الحيوانُ الأكثر ألفة وإخلاصًا للإنسان فإنه الأقل حظًا واحترامًا عند الإنسان العربي مقارنة بالخيل والإبل.

 

فلو عدنا إلى أيام العرب سنجد أن أشهر حربين وأطولهما في تاريخ العرب قبل الإسلام (داحس والغبراء والبسوس)، اللتين قامتا بسبب سباق خيل وقتل ناقة، حفظتا لنا الكثير من الشعر الذي خلّد هذه الحرب ولقد بقيت القبائل تستذكر هذه الحروب بفخر لسنوات طويلة.

 

وإذا تأملنا الشعر العربي القديم -وأيضًا الشعر النبطي الحديث- سنجد أن للخيل والإبل حظًا وافرًا في هذا الشعر، بينما قل أن يتطرّق الشعر للحديث عن الحمار إلا في باب السخرية والاستهزاء.

 

وما ينطبق على الشعر ينطبق على السرد العربي؛ إذ إنّ حضور الحمار يقترن غالبًا بالأدب الساخر مثل حمار جحا، كما أن وصف إنسان بالحمار يعد من الشتائم الشائعة التي تقترن بالغباء.


سيحاول هذا المقال مراجعة حضور الحمار في الذاكرة الشعبية -بشكل سريع- في سبيل التأسيس لتاريخ شعبي للحمار، وسيعتمد المقال على الذاكرة الأردنية التي هي بيئة الكاتب، وستكون الأمثلة جميعها من هذه البيئة.

 

ففي ثلاثينيات القرن الماضي أضاع أحد أبناء عشيرة الحباشنة في الكرك حمّارًا أو سُرق منه؛ ولم تجدِ محاولاته البحث عن الحمار إلا بعد عشر سنوات حينما عثر عليه في حوزة السارق.

 

ولكن هذا الأخير أنكر السرقة وأقسم أيمانًا مغلّظة أنه اشتراه من حر ماله؛ الأمر الذي دفع بهما إلى القاضي العشائري (وهو من عشيرة الحباشنة وابنه إبراهيم سيصبح وزيرًا للداخلية في الأردن لاحقًا).

 

ولقد سأل القاضي صاحب الحمار عن الأعمال التي كان الحمار يقوم بها، فأخبره أن آخر عمل قام به هو نقل حجارة استخدمت في بناء المستشفى الإيطالي في الكرك.

 

فأمر القاضي بأخذ الحمار إلى موقع المستشفى وتركه هناك فإذا عاد إلى بيت الرجل صاحب الدعوى فهو صادق والحمار له، ولقد وافق السارق ظنا منه أن عشر سنوات كفيلة بمسح ذاكرة الحمار. غير أن المفاجأة كانت حينما عاد الحمار إلى بيت صاحبه(1)!


ولقد وقعت حرب عشائرية كبيرة في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين بين عشائر بلدة سوف (جرش) وعشيرة المومني (جبل عجلون) بسبب خلاف على حمارين.

 

فقد حدث أن ذهب رجلان من أبناء سوف (بلدة أردنية بالقرب من مدينة جرش) إلى المزار (بلدة تقع في شمال الأردن) لشراء التبن للبهائم التي تستخدم في أراضي آل الكايد أصحاب الزعامة في جرش -في ذلك الوقت- وكانا يحملان التبن على حمارين؛ ولقد اعترضهما في طريق العودة عدة أشخاص من أبناء عشيرة المومني بحجة أنّ ملكية الحمارين تعود لهم وأنهما سارقان.

 

فحدثت ملاسنة بينهم سرعان ما تطوّرت القضية إلى الصدام وتكاثر القوم عليهما؛ فقُتل الأول وهرب الثاني بجروحه وأخبر قومه، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة.

 

فقامت حرب شرسة، مقارنة بحروب القرى والعشائر، استمرت ثلاث سنوات وسقط فيها أكثر من اثنين وثلاثين قتيلاً من الطرفين.


ولقد تأسست الدولة الأردنية والحرب قائمة، وحاولت السلطة الجديدة إنهاء الحرب وإجراء الصلح، ولكنها في بداياتها لم تكن في وضع قوي يسمح لها بفرض الصلح فرفضه الطرفان.

 

والطريف أيضًا أن كليب الشريدة -زعيم لواء الكورة- حاول أن يتدخل لإنهاء الخلاف ولكن عشائر سوف رفضت ذلك؛ الأمر الذي أغضب الشريدة وأشعره بالإهانة فانضم إلى المومنية في حربهم وقاتل معهم.

 

اقرأ أيضا : دولة أفريقية تمنع القضاء على الحمير.. لهذا السبب

ولم تنته الحرب إلا بعد أن شعر أهالي سوف أنهم تساووا في عدد القتلى مع الطرف المقابل؛ فجرى الصلح بوجه الشيخ سالم الهنداوي.


وحدث ذات مرة في قرية من قرى مدينة إربد أن مات حمار عند إحدى العائلات؛ فحزنوا حزنًا شديدًا على موته ويبدو أنهم بالغوا في الحزن حتى إنهم أقاموا له جنازة، وكانوا يبكون، وهم في طريقهم إلى دفنه، ويندبونه بعبارة (أسمر يا حبيبي). ولقد سمع أهالي إحدى القرى المجاورة عويلهم فهبوا لمعرفة الخبر، ظنّا منهم أن كارثة كبيرة قد حلّت بجيرانهم ولكن المنظر صدمهم.

 

وأصبحوا يتندرون على أبناء هذه العائلة كلما قابلوا أحدًا منهم بعبارة (أسمر يا حبيبي)، ولقد تطوّر الأمر حتى بلغ حدًا مزعجًا ومحرجًا لأبناء العائلة؛ فقرروا اللجوء للقضاء في سبيل وضع حد لأبناء القرية المجاورة.


ولقد انتصر لهم القاضي وفرض غرامة مالية مقدارها خمسة دنانير -وهي مبلغ كبير في ذلك الوقت- يدفعها أي شخص يتفوه بهذه العبارة أمام أبناء هذه العائلة.

 

ويبدو أن القاضي خجل أن يسأل عن القصة ظنًا منه أن القضية تتعلّق بالعرض والشرف، ولكن حينما تصدى له أحد أبناء القرية وشرح له القصة شعر القاضي أنه تورّط ولكنه لا يستطيع التراجع؛ فأخرج من جيبه خمسة عشر دينارا (ثمن ثلاث مخالفات) ووضعهن بالترتيب على الطاولة قائلا مع كل ورقة خمسة يضعها: أسمر يا حبيبي ... أسمر يا حبيبي ... أسمر يا حبيبي! 


(1)-  تراث البدو القضائي، محمد أبو حسّان.
(2)- خضر عتوم، الزعامة الاجتماعية في سوف: أنماطها وعناصرها.